الاثنين، 22 مارس 2010

شارل بودلير

غسق المساء

الشمس توذن بالمغيب. أخذت سكينة هائلة تتنزل على النفوس البئيسة المتعبة بكد يومها؛ فخواطرها تصطبغ بألوان الغسق الناعمة الضبابية. في حين، تصل صرخة عظيمة من أعلى الجبل إلى شرفتي، عبر سحائب المساء الشفافة، صرخة مركبة من طائفة من الأصوات المتنافرة، يحولها الفضاء إلى إيقاع محزن، كأنه إيقاع هدير مد البحر الذي يرتفع مستواه، أو كأنه إيقاع عاصفة تهبّ.

من هم التعساء الذين لا يخفف عنهم المساء روعهم، والذين يتخذون قدوم الليل، كالأبوام النواعق، إعلاناً عن السبت؟ يصل إلى مسامعنا ذلك النعيق المشؤوم من ماريستان المجانين الأسود المقام على الجبل؛ وعندما أدخن متأملاً في المساء، هدوء الوادي الشاسع المحاط بدور متناثرة تناثراً كثيفاً، تشي إليّ كلُّ نافذة من نوافذها: " هاهنا الوئام الآن؛ وهاهنا البهجة في الحضن العائلى! " إنني أستطيع أن أهدهد خاطري الذي حيرته محاكاة الإيقاعات الجهنمية تلك، عندما تهب الريح من الأعالي. يُهيّج الغسق المجانين ـ أتذكـّرُ أن لي صديقين كان الأصيل يُضنيهما تماماً، وكان أحدهما يستخف آنذاك بجميع روابط الصداقة واللياقة، ويسيئ كوحش، معاملة أي شخص يلقاه، فقد رأيته يرمي على وجه مدير الخدم ديكاً جيداً، وكان يعتقد أنه رأى فيه سُبّة ًغامضة لمفامه، وما فتئ المساء المنادي ببوادر اللذات الحسية يعكر أشهاها في ذوقه. ثاني الصديقين تواق إلى المعالي، مُحبَطُ المسعى، يتحول إلى أشرس الخلق وأكثرهم كآبة وتنكيداً كلما كاد النهار ينقضي، فلا يزال متساهلاً ومحباً لمعاشرة الناس خلال النهار، ويمسي عديم الشفقة في المساء؛ ليس فقط على غيره من الناس، بل حتى على نفسه هو بالذات إذ يمارس عليها عادته الغسقية المستهجنة.

مات الأول مجنوناً، وقد عجز عن التعرف على زوجته وولده؛ والثاني يحمل في نفسه انشغال البال بانحراف المزاج الأبدي، فلعله كان مُـنْعماً عليه بجميع الأمجاد التي من شأنها أن تكسبه امتيازات الجمهوريات والأمراء، وأعتقد أن الغسق مازال يُشعل فيه الرغبة المحركة للامتيازات الوهمية. وما انفك الليل ينوء بظلماته على نفسيهما، ويومئ بالضوء إلى نفسي؛ ومع أنه لن يكون نادراً رؤية السبب ذاته يُحدث فعلين مضادين، فإنني دائماً إنسان قلق ومتخوف.

أيها الليل! أيتها الظلمات الندية! أنتن بالنسبة لي إعلان عن ابتهاج داخلي، وأنتن خلاصي من قلق ما! تتلألأ النجوم في عزلة البحر، و اتقاد الفوانيس في المتاهات الحجرية لعاصمة من العواصم، فأنتن النار الأسطورية لعيد الإلهة الحرية أيها الغسق، كم أنت ندي الأجواء، لطيف النسيم! فكأن الومضات الوردية التي مازالت تتبعثر خيوطها في الآفاق، احتضار النهار تحت هيمنة الليل، فأنوار القناديل التي تحدث بقعاً من لون أحمر كامد حول الأمجاد الأخيرة للشمس الآفلة، والأثواب الثقيلة التي تجذبها يد خفية من أعماق المشرق، تحاكي جميع المشاعر المعقدة التي تصارع ساعات الحياة المعدودة المهيبة في صدر الإنسان. وكأنما هي أيضاً فستان من تلك الفساتين الغريبة ترتديه الراقصات كشف فيه نسيج حريري شفاف ومعتم عن المحاسن الباهتة لامرأة متألقة، وكأنما ذلك الفستان يخترق الماضي البهيج أثناء سواد الظلام الحاضر، وقد نُشرت فيه النجوم الذهبية والفضية المترنحة انتشاءً، فتجسدُ تلك الأنوار الخيالية المبدعة التي لا تتقد اتقاداً سوى في حضن الليل البهيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق