الاثنين، 22 مارس 2010

بودلير

الغريب

قل لي أيها الرجل الغامض الطبع: من الذي تحب، أباك، أم أمك أم أختك، أم أخاك؟

ـ مالي أب و لا أم ولا أخت ولا أخ.

ـ أصدقاءَك؟

ـ تستعمل هنا كلاماً ظل معناه عندي حتى اليوم مجهولاً.

وطنك؟

ـ أجهل في أي منطقة يقع.

ـ الجمال؟

ـ قد أحبه عن طواعية، إلهياً وأبدياً .

ـ الذهب ؟

ـ أبغضه…

ـ ويحك! ماذا تحب و الحالُ هذه، أيها الغريبُ الخارقُ للعادة؟

ـ أحب السحائب التي تمرّ…هناك…السحائبَ الرائعة .

2

يأس المرأة العجوز

شعرت المرأة المتجعـدة البشرة أنها مبتهجة للغاية، وهي تنظر إلى ذلك الصبي الوسيم الذي كان كل واحد من الناس يهفو إلى الاحتفاء به، ويسعى الجميع إلى أن يروقوا له، أن يروقوا لذلك الكائن الجميل الرهيف تماماً، مثلها، مثل تلك العجوز الطاعنة في السن، وبدون أسنان، ولا شعر.

واقتربت منه العجوز تريد أن تبتــسم له، وأن تبدو أمامـه، بشوشة المُحيّا، لكن الطفل المذعور، تمنع تحت مداعبات المرأة العجوز المتهدمة، فملأ البيتَ بوعوعاته .

وعندئذ اعتكـفت العـجوز الطيبة القلب في عزلتها الأبدية، فأخذت تبكي في ركـن من أركان البــيت قائلة في نفـسها: " واحسرتاه! لقد انصـرف عمرنا بالنسـبة إلينا، نحن الإناثَ العجائز التعساتِ في أن نروق حتى للبرآء، أما اليوم ، فإننا نرعب الأطفال الصغار الذين نرغب في محبتهم ".

3

صلاة اعتراف الفنان

أو
مجاهرة الشاعر بمبادئه

واهاً! يا لنهايات أيام الخريف وصروفه النافذة فينا! النافذةِ حتى القلبِ موطنِ الألمْ! ذلك أنها توجد في بعض الإحساسات الممتعة التي لا يستبعد الاحتدادَ غامضُها؛ فلا يوجد نصلٌ أمضى من نصل اللانهائي.

يا متعة أعظمَ من متعة مَن يعرف بصُره شساعة السماء والبحَرْ ! أيتها الوحدة، أيها الصمتُ ، يانقاوة اللازورد المنقطع النظيرْ! يهتز موكب شراعي صغير في الأفق، ويحاكي وجودي الذي لا دواء له، لحناًَ رتيباً من التماوج، من خلال صغر حجمه وعزلته.

تهجس بي كل تلك الأشياء، أو انا الذي أهجس بها) إذ يتيه الأنا سريعاً، في شساعة حلم اليقظة (قلتُ إنها تهجس بي، لكنْ موسيقياً، وبشكل ظريف، بدون حجاجات، وبدون قياسات منطقية، وبدون استنتاجات . بيد أن تلك الأفكار التي تخرج مني أو تندلق الأشياءُ، سرعان ما تصبح محتدة احتداداً شديداً.

تـُحدث الطاقةُ في اللذة الحسية تضايقاً ومعاناة إيجابية. ولا تنمّ أعصابي المتوترة جداً، إلا عن اهتزازات صاخبة ومؤلمة.

والآن، يُلهمني عمق السماءْ، صفاؤها يغيظني. يثيرني فقدانُ الإحساس بالبحَرْ، وثباتُ المشهد...واهاً! أينبغي التألمُ أبدياً، والهروبُ دوماً من الجميل؟

أيتها الطبيعة، يافتّانة القلوب بلا رحمة، يا غريمة منتصرة دائماً، إليكِ عني!

كُفي عن إغراء رغباتي والإيقاع بكبريائي! فالتخطيط للجمال، مبارزةٌ يصرخ فيها الفنان من الرعب قبل أن يُهْزَم.


4
مـفـاكـه

كان ذلك انبثاق السنة الجديدة: مزيج من الطين والثلج، جرفته ألف عربة تتلألأ بالألعاب والحلويات الملبسة بالسكر، وتزخر بالأطماع وضروب من القنوط، فقد وقع هذيان رسمي لمدينة كبيرة لأجل بلبلة دماغ أقوى المنعزلين.

وكان حمار يخب بحيوية وسط هذا الهرج والمرج واللغط، وقد ضايقه رجل فظ، مسلح بسوط. وبما أن الحمار قد استدار كعادته، حول زاوية أحد الأرصفة، فقد انحنى سـيد وسيم، مقفز الكفين، مبـرنق الحذاءين، ذو ربطة عنق منعقدة بعناء، ومحبوس في ملابس حديثة للغاية، انحنى بأبهة أمام الحيوان الوضيع، فقال له رافعاً قبعته احتراماً: " أتمناها لك سنة طيبة وسعيدة، " ثم عاد نحو رفاق غير معيــنين، والغرور باد على محـياه، كأنما ليدعوهم أن يصنفوا موافقتهم على رضاه .

ما رأى الحمار ذلك الرجل المفاكه الوسيم، بل تابع جريه في اندفاع كان يدعو إليه واجبه.

أما أنا؛ فقد كنت مأخوذاً فجأة بغيظ لا حدود له، ضد هذا الغبي الجميل، وقد بدا لي، أن ذوق فرنسا الرفيع، يعقد عليه آمالاً كبيرة.

5

الغرفة المزدوجة

غرفة تشبه حلماً،

غرفة روحية حقاً،

أجواؤها الملبدة،

ملونة بلطافة، تلويناً وردياً وأزرق.

تأخذ فيها النفس حمام استرخاء، معطراً بالأسى والرغبة. ـ ذلك شيء غسقي، من اللون المزرق والضارب إلى الورديّ؛ حلم من اللذة الحسية أثناء خسوف ما.

وللأثاث أشكال ممددة، منهوكة.

يبدو الأثاث حالماً؛ فكأنه منعم بحياةٍ نومَاشية كالنبات والجماد. تتحدُث الأقمشة لغة صامتة، كالأزهار، وكالسماوات، والشموس الغاربات.

لاشيء من سماجة فنية على الجدران. الفن المحدد والفن الوضعي شتيمة بالنسبة إلى الحلم الخالص، وإلى الانطباع غير الموضح. هنا، الكل يملك الوضوح الكافي، وغموض التناسق الممتع .

يسبح عطر فاخر, أرق، في هذه الأجواء، متناه في لطافة أريجه، تمتزج فيه رطوبة جد خفيفة، حيث الفكر الغافي قد هدهدته إحساسات آتية من وعاء نباتات المناطق الحارة.

يمطر النسيج الموصلي بغزارة أمام النوافذ وأمام السرير، ويفيض شلالات مكسوة بالثلوج.

على ذلك السرير، اضطجعت الحبيبة ملكة الأحلام. لكن كيف وُجدتْ هنا؟ ومن الذي جاء بها؟ أيّ قدرة سحرية أجلستها على عرش الحلم والتأمل واللذة الشبقية؟ ماجدوى ذلك؟ هاهي ذي مازلت أعرفها!

هاهي ذي تماماً تلك العيون التي يخترق الغسقَ لهبُها، تلك العيون الحادة والمرعبة، التي اعتدتُ على مَكْرها الرهيب! فهي تغري، وتتحكم، وتفترس نظرة المتهور الذي يتأملها. تلك النجوم التي تتطلب الفضول والإعجاب، غالباً مادرستُها. فلأيّ شيطان عطوف أدين بان أكون هكذا محاطاً بالغموض، وبالصمت، والراحة والعطر؟ يا طوبى! فما نسميه عموماً بالحياة، حتى في امتدادها الأسعد، لا جامع بينه وبين تلك الحياة العليا التي أملك عنها الآن معرفة ما، وأتلذذ بها دقيقة بعد دقيقة، وثانية بعد ثانية!

كلا! لا يوجد هناك من دقائق، ولا يوجد بتاتاً من ثوان! لقد انمحى الزمن؛ فالخلود هو الذي يسود، خلود من المباهج!

لكن ضربة رهيبة ثقيلة دوّت بغتة على الباب، وبدا لي أنني تلقيت ضربة معول على المعدة مثلما الحال في الأحلام الجهنمية، ثم دخل شبح، ذلك هو منفذ أحكام، وعذبني تلك الساعة باسم القانون، فشكت إليّ الآن بؤسَها، خليلة شائنة؛ فما زادت سوى أن أضافت مباذل حياتها إلى آلامي، وبالتالي جاء ساعي مدير جريدة يلتمس مني بقية المقالة التي خططتها.

الغرفة الفردوسية، والعشيقة، ملكة الأحلام السلفيدة، كما يقول روني الأكبر...كل تلك الفتنة اختفتْ بضربة عنيفة قرع بها الشبح الباب.

يا للهول! إني أتذكر! إني أتذكر! أجل! هذا الكوخ القذر، وهذه الإقامة للسأم، وبالتأكيد، هو سأمي. هاهو ذا الأثاث السخيف المغبر، والمهشم؛ فالمدخنة بدون لهيب، وبدون جمر، منزوعة، وملطخة بالبصاق: النوافذ التي حط عليها المطر أخاديد على غبارها.

والمخطوطات الممحوة، أو غير المتممة، والرزنامة التي سجل عليها قلم الرصاص، التواريخ الحزينة.

وهذا العطر الآتي من عالم آخر، الذي ما زلتُ أثمل به في رقة متناهية، وا أسفاه! لقد عُوّض عنه برائحة تبغ كريهة ممزوجة لا أدري بأي رائحة مغثية أقارنها. إنني أتنفس هنا الآن، عفونة الأسى.

في هذا العالم الضيق، بل المليء بكثير من التقزز، شيئ واحد معروف يبتسم لي: قارورة مستخلص صبغة كحول الأفيون، وهي صديقة قديمة ومرعبة، مثل جميع الصديقات، وا أسفاه! إنها مخصبة في مداعبات الحب وفي الخيانات.

آهٍ! لقد تذكرت! فقد ظهر الزمن مجدداً؛ الزمن يسود الآن ملكاً؛ وعاد مع العجوزالبشع تماماً، موكبُه الشيطاني من الذكريات، ومن الحسرات، ومن التشنجات، من المخاوف وأنواع القلق، والكوابيس، من الغضب وأنواع العُصاب.

أؤكد لكم أن الثواني الآن تتحرك بقوة، وبأبهة، وكل واحدة منها تعلن، وهي تنساب من البندول:" أنا الحياة العنيدة التي لاتحتمل!"

لايوجد هناك إلا ثانية في الحياة الإنسانية عسى يكون لها مهمة الإعلان عن خبر سار، الخبر السار الذي يسبب لكل واحد من الناس، خوفاً يتعذر شرحه.

أجل! إن الزمن يسود؛ فقد استأنف ديكتانوريته القاسية.

ويدفعني بمنخسه المزدوج، كأنني قد أكون ثوراً ، صارخافي وجهي ـ " هيا! انطلق أيها البليد! تصببْ عرقاً، ياعبد! عش إذن أيها المعذب! "


6

كل واحد وخرافته

تحت سماء واسعة الأرجاء رمادية، وفي سهل مغبر، بدون مسالك، ولا حشائش"غازون"، خال من أي شوكة وبدون نبتة قرّاص، سألتقي عديداً من الرجال يمشون مقوسي الظهر.

كل واحد منهم يحمل فوق ظهره خيمراً ضخماً، أثقل أيضاً من كيس طحين الفرينة، أومن كيس الفحم، أو أثقل من عتاد جندي روماني من المشاة.

لكن الوحش المخيف لم يكن حملاً جامداً بل بالعكس، فهو يطوق الإنسان ويُخضعه بعضلاته المطاطية والقوية، فيتشابك بمخلبيه الضخمين على صدر مطيته، وتعتلى رأسُه الأسطورية جبهة الإنسان، مثل إحدى قبعاته البشعة التي كان المحاربون القدماء يأملون بواسطتها، أن تضاف إلى وسائل ترهيب العدو.

استفهمت واحداً من أولئك الرجال، فسألتُه أين يذهبون. أجابني أنه لا يعرف عنهم شيئاً، لا هو، ولا الآخرون؛ بل إنهم كانوا يسيرون إلى جهة ما، حيث إنهم مدفوعون بحاجة إلى المشي لا تقهر.

شيء غريب جدير بالملاحظة: لا أحد من أولئك المسافرين كان يبدو عليه أنه غير حانق على ذلك الحيوان الوحشي المعلق على رقبته، والملتصق بظهره. فقد قيل إن ذلك الحيوان يعتبر جزءاً من جسمه بالذات. لا تبدي تلك الوجوه المتعبة والرزينة، أي قنوط تحت القبة السوداوية للسماء، فأقدامهم إذن ممددة في غبار أرض مقفرة مثل هذه السماء، وكانت تسير في هيئة مستسلمة، سيرَ أولئك الذين حُكم عليهم أن ينتظروا دائماً.

ومر الموكب أمامي، وتوارى في أجواء الأفق الذي تختفي فيه مساحة الكوكب المستدير عن فضول النظرة الإنسانية، وخلال بضع لحظات، أصررتُ على الرغبة في أن أفهم ذلك السر الغامض، لكن ، سرعان ما انهارت اللامبالاة التي لا تقاوم، وكنت أشد إرهاقاً، بأكثر بلادة مما لم يوجدوا عليه هم أنفسهم من خلال إرهاق خياميرهم لهم .


7

فينوس والمجنون

ياله من يوم جميل! تتفتح الحديقة واسعة الأرجاء تحت عين الشمس المحرقة كما تتفتح الخواطر في شرخ الشباب تحت سلطان الحب.

إن الافتتان بالأشياء الجميلة جميعها لا يعبر عن نفسه من خلال أي لغط؛ فالمياه ذاتها تخالها هادئة. إن هاهنا لعربدة صامتة مختلفة اختلافا عن ولائم البشر.

قد يحسب المرء أن ضوءاً تدريجياً يوقد الوجد في الأشياء، وأن الأزهار التي مستها اللوعة تحترق شوقاً من الرغبة في مجاراة اللازورد السماوي بقوة ألوانها، وأن الحرارة تجعل بَِخور العطور مرئياً، وتتوسل به تجاه كوكب الشمس في ابتهال روحاني.

إلا أنني شاهدتُ كائناً كئيب الفؤاد في هذه المتعة الشاملة؛ يرتمي بين قدمي فينوس العظيمة، شاهدت واحداً من أولئك المجانين المكلفين بإضحاك الملوك عندما تستبد بهم الندامة أو السأم، شاهدته يرتدي زياً صارخة ألوانه، ومضحكة، يزين رأسه بالقرون والأجراس، ويشد أنفاسه متحفزاً تجاه قاعدة تمثال فينوس، يرفع عينين يغمرهما الدمع نحو الإلهة الأبدية وتتوسل عيناه:ـ " أنا أتفه الخلق، وأكثر البشر انزواءً عن الناس، محروم من الحب والصداقة. ثم إنني في أسفل سافلين تحت أرذل الحيوانات. في حين أنني خُلقتُ لأدرك الجمال الأبدي وأحس به! واهاًَ! أيتها الإلهة، ألا أشفقي على حزني وولهي! "

غير أن فينوس القاسية القلب، تنظر إلى مسافة بعيدة، إلى شيء ما، بعينيها المرمريتين.


8

الكلب والقارورة

" كلبيَ الجميل، كلبي الطيبَ، يا جرويَ العزيز، تعال ادْنُ مني فتستنشقَ عبيراً من عطر رفيع ابتعته عند أحسن تاجر عطور في المدينة."

وترى الكلب، وهو يهش إليّ بذيله، مما يعتبر عند هذه المخلوقات الضعيفة، على ما أعتقد، بمثابة إشارة تعادل الضحك والابتسام، تراه يتقرب إليّ ويضع أنفه المبلل بفضول على القارورة المفتوحة؛ ثم يتراجع بشكل فجائي، فينبح في وجهي بطريقة تـُبين عن لومه لي.

" آه!ـ أيها الكلب الحقير، لو كنتُ قدمتُ إليك علبة من الفضلات لكنتَ اشتممتَها بالتذاذ، ولربما التهمتَها باشتهاء، حتى إنك أيها الرفيق غير الجدير بالمرافقة في حياتي الكئيبة، لتشبه الجمهور الذي لا ينبغي لي أبداً أن أقدم إليه عطوراً رفيعة تـُسخطه، بل نفاياتٍ مختارةً بعناية .


9

الزجّاج الرديء

ببساطة، هناك طبائع تأملية وغير ملائمة كلياً للعمل، غير أنها تفعل فعلها أحياناً بسرعة قد تجعلها غير كيّسة وعاجزة، تحت إغراء خفي ومجهول.

إن من يتسكع في ارتخاءٍ، ساعة ًمن الزمن أمام بابه، دون أن يتجرأ على الدخول إلى بيته مخافة َأن يعثر على نبإ محزن عند بوابه، ومن يحتفظ برسالةٍ خمسة عشر يوماً دون أن يفض ختامها أو لا يستسلم لرغبته إلا في رأس ستة أشهر للقيام بمسعى ضروري منذ مُضي عام، ليحسان أحياناً بأنهما مستعجلان بشكل مباغت، تدفعهما قوة لا ترد، كسهم قوس.

لا يستطيع عالم الأخلاق والطبيب اللذان يدعيان المعرفة أن يوضحا من أين تأتي قدرة هائلة على حين غرة، إلى تلك النفوس الخاملة، والمحبة للملاذ الحسية، وكيف، وهما العاجزان عن إكمال أبسط الأشياء وأكثرها ضرورة، فتجد تلك الطبائع في بضع دقائق شجاعة غير عادية لتنفيذ أكثر الأفعال عبثاً، وحتى أشدها خطورة أحياناً.

أشعل أحد أصدقائي ـ ربما كان أكثر الحالمين غير المؤذين وُجد على هذه الأرض ـ ذات مرة النار في غابة، ليرى فيما إذا كانت ألسنة اللهب تندفع بكثير من السهولة التي يتأكد بها اندلاعها. أخفقت التجربة عشر مرات، لكنها نجحت نجاحاً باهراً في المرة الحادية عشْرة.

ويشعل صديق آخر سيكاراً بجانب برميل بارود، ليرى، ويعرف، ويجرب القـَدر، فيجبر نفسه هو بالذات، على القيام بتجربة القدرة على ذلك، وليمثل المقامرَ بمبالغ كبيرة، ومن أجل أن يعرف متعة التلهف على لاشيء، من خلال النزوة وانعدام الشغل.

إن ذلك نوع من المقدرة التي تنبثق من الضجر وأحلام اليقظة، فالذين تتجلى فيهم تلك الرغبة بعناد شديد، هم في الغالب ، كما ذكرتُ، أكثر الناس ليناً وأكثرهم حلماً على وجه البسيطة.

ويخجل صديق آخر، إلى ذلك الحد الذي فيه يغضبني ببصره أمام أنظار الرجال، إلى ذلك الحد الذي فيه ينبغي له، تجميع إرادته الضعيفة كلها للدخول إلى مقهى، أو المرور أمام مكتب مسرح يبدو له فيه المراقبون كأنهم تقلدوا منصب قضاة العالم السفلي، بمهابة مينوس وعياق ورادمنث، وسيثب بغتة على عنق رجل عجوز يمر أمام الجمهور المندهش.

لماذا؟ لأن تلك السحنة كانت ودوداً له، بشكل لا يقاوم، لكنها أكثر شرعية على افتراض أنه هو ذاته، لا يعرف لماذا.

لقد كنت أكثر من مرة ضحية هذه النوبات، وهذه الاندفاعات العاطفية التي تبيح لنا الاعتقاد أن شياطين خبثاء يحبذون لنا القسق ويندسون في نفوسنا الأمارة، فيجعلوننا نـُخضع لجهلنا رغائبهم الأكثر عبثاً.

كنت ذات صباح، قدنهضت من نومي مقطب الجبين، حزيناً، متعباً من وقت الفراغ، ومدفوعاً على مايبدو، إلى القيام بشيء ذي قيمة، عملٍ مأثور، ففتحتُ النافذة، وا أسفاه!

)لاحظ ،أرجوك، أن طبيعة الخداع التي ليست نتيجة عمل أومشاركة؛ بل استلهاماً فجائياً ينجم غالباً ـ ربما لم يكن ذلك إلا من احتدام الرغبة ـ عن هذا المزاج الهستيري حسب ادعاء الأطباء الكلاسيكيين، والشيطاني، حسب رأي أولئك الذين يظنون أنفسهم أحسن قليلاً من الأطباء، والذين يدفعوننا بلا مقاومة منا نحو العمل المتهور الخطير أو العمل غير اللائق.(

كان أول شخص شاهدته في الشارع زجّاجاً صيحتـُه تشق عنان السماء، صيحة ٌ متنافرة المقاطع، تصاعدت إليّ عبر الجو الباريسي الخانق والقذر. قد يستحيل عليّ من جانب آخر، أن أعلل لماذا كان قد انتابني بخصوص هذا الرجل الضعيف حقد مفاجئ سريع أيضاً، سرعته بقدر هيمنته على كل شيء.

" يا هذا! على رسلك! " وقد صحتُ به أن اصعدْ. غير أنني كنت أفكر غير بعيد عن بعض الابتهاج، إذ على الرجل أن يواجه صعوبة ما، في عملية صعوده، وأن يربط في عدة جوانب، زوايا بضاعته الرهيفة، فالغرقة توجد في الطابق السادس، والسلالم جد ضيقة.

وأخيراً ظهر: فحصتُ بفضول لوحاته الزجاجية جميعها، فقلت له: " كيف؟ أوَليس عندك من زجاجاتٍ بالألوان؟ زجاجات وردية حمراء، وزرقاء، لوحات زجاجية سحرية، ولوحات زجاجية غيرها فردوسية؟ يالك من سفيه! إنك تتجرأ على التجوال في الأحياء الفقيرة، وليس عندك ولو لوحات زجاجية قد تجعل المرء ينظر إلى الحياة في تفاؤل! " فدفعته في سرعة نحو السلم الذي تعثر فيه وهو يدمدم بكلمات.

اقتربتُ من الشرفة، فقبضت على أصيص صغير من الزهور، فلما لاح لي الرجل مجدداً من منفذ الباب، تركتُ آلتي الحربية تسقط عمودياً على حافة ظهر معاليقه الزجاجية فتصرعه الصدمة، لقد كسر أصيص الزهور، تحت ظهره، ثروته الضئيلة الرديئة كلها، التي جعلت الضجيج المدوي لقصر بلوري متصدعاً من ضربة الصاعقة.

ليست هذه المجونات العصبية بلا خطورة، بل يمكن أن يؤدي عنها المرء غالياً. لكن ماذا يهم الخلود في العذاب لمن وجد له المتعة في خلود ثان؟


10

في الواحدة صباحاً

أخيراً! ها أنذا وحدي! لا يسمع المرء إلا دوران عجلات عربات فيكر المتأخرة والمتعبة. وسننعم بالهدوء خلال بضع ساعات، بل بالراحة. أخيراً لقد غاب طغيان الجانب الإنساني، ولن أتعذب إلا من خلالي أنا بالذات.

أخيراً! يجوز لي أن أتسلى بحمام من الظلمات! أولاً هناك دوران مزدوج للقفل. و يبدو لي أن ذلك الدوران للمفتاح سيزيد من شعوري بالعزلة، وسيعزز الحواجز التي تفرقني حالياً عن العالم.

يا للحياة الرهيبة! ويا للمدينة الرهيبة! فلنراجع حصيلة اليوم بإيجاز: لقد رأيت كثيراً من الأدباء, سألني واحد منهم فيما إذاكان يمكن للمرء أن يذهب إلى روسيا عن طريق بريّ) يحسب روسيا بلا شك جزيرة ما ( ؛ واجهتُ بمروءة مدير مجلة، فكان في كل اعتراض يجيب: " ههنا طائفة من أناس شرفاء "، وهو ما يتضمن أن جميع الجرائد الأخرى، حررها أناس أنذال؛ سلمت على نحو عشرين من الأشخاص، منهم خمسة عشر شخصاً أجهلهم؛ اصطفت قبضات أيديهم في نفس مستواها، وذلك بدون اتخاذ الحيطة لشراء قفازات؛ ثملتُ في بيت بهلوانية وثابة، كي أقتل الوقت أثناء مطر وابل، فطلبت مني أن أرسم لها بذلة مضحكة؛ وقمتُ بتملقي لمدير المسرح، الذي قال لي صارفاً عنه إياي: " لعلك فعلت حسناً بتوجيهك الكلام إلى : Z ...؛إنه أثقل الناس وأكثرهم حمقاً، وأشهر كتـّابي المؤلفين جميعهم؛ به ربما يمكنك أن تبلغ شيئاً ما. فعليك به، ثم بعد ذلك سنرى. "

مبجل ٌ أنا؟ ) لماذا؟ (بالعديد من الأعمال البشعة التي لم أرتكبها أبداً، وقد أنكرت دنيئاً بعض الأعمال السيئة الأخرى التي نفذتها مبتهجاً، أنكرت جنحة المتشدق والجريمة المتعلقة بالاحترام الإنساني؛ رفضتُ أداء خدمة سهلة لصديق، وأعطيتُ توصية مكتوبة إلى إنسان معصوم من العيوب غريب؛ أفٍّ! فهل انتهى ذلك؟

ولما أنا غير راض عن الجميع، ولا عن نفسي، فربما تساورني رغبة شديدة في أن أسترد شرفي وأنا أتباهى قليلاً في سكون ووحشة الليل.

يا أرواح عتبات القديسين الذين أحببتهم، يا أرواح أولئك الذين أمجدهم، عززوني، ساندوني، كونوا لي، أبعدوا عني البهتان وأبخرة العالم الفاسدة؛ وأنت أيها الرب, يا إلهي! هب لي من لدنك نعمة إنتاج بعض الأشعار الرائعة التي تثبت لي أنا بالذات، أنني لست بأسوإ الرجال ولا بأسفل أولئك الذين أحتقرهم.

11

المرأة المتوحشة والغانية المغناج

حقاً يا عزيزتي، إنك ترهقينني إرهاقاً مفرطاً وبلا شفقة، فكأن من سمعكِ تتـنهدين، يظن أنك تتعذبين أكثر من لاقطات السنابل الفلاحات الستينيات، وأكثر من العجائز المتسولات، اللائي يلتقطن فُتات الخبز، على أبواب الملاهي .

" لو كانت توجعاتكِ على الأقل، تعبر عن تحسراتكِ، لأ ضفتْ عليكِ بعض الشرف، لكنها لا تعبر سوى عن الملل من الرفاهية، والضجر من الراحة. فضلاً عن ذلك، لا تفتئين تلقين عليّ كلاماً غير مفيد: " أحبّني جيّداً؛ فإنـني في أمسّ الحاجة إلى ذلك! خففْ عني لوعتي من هنا، لاطِفني من هناك! " انظري، سأحاول إشفاءكِ؛ فربما توجد وسيلة علتك، بقرشين اثنين وسْط تسلية، وبدون الذهاب بعيداً.

"تأملي – أرجوك – ذلك القفص المتين من الحديد، فوراء قضبانه يتأجّج مَن حُبِسَ فيه، يصرخ صراخ أحد الهالكين، يزعزع قضبانه، مثل قرد غاظه المنفى، تارة تحاكي قفزاته، في إتقان تقليده، وثباتِ النمر، وتارة أخرى، تمايُلاتِ الدبّ الأبيض الثقيلة، فذلك الوحش، كاد شكله يشبه شكلك،

ذلك الوحش المخيف، واحد من تلك الحيوانات التي تُدْعى غالباً " ملاكي! "، أعني امرأة. أما الوحش الآخر- ذاك الذي يصرخ صراخاً شديداً، وبيده عصىً – فهو زوجٌ ما. لقد كبّل زوجته الشرعية كأنها وحش، ويكشف عنها في الأحياء، أيام السوق بإذن من الولاة، وهذا شيء طبيعي.

انتبهي جيداً! وانظري إلى أي شراهة )لعلها شراهة غير مصطنعة (تمزق بها تلك المرأة، الأرانب الحية، والطيور المتزقزقة، التي يُلقي بها إليها فيّالها، فينصحها: " هيا، لا ينبغي أن تلتهمي كل مئونتك في يوم واحد ". وعلى أساس هذه الحكمة، أزال لها بقسوة، الفريسة التي تلوح أمعاؤها الممزقة، معلقة تلمع لحظة بين أسنان الحيوان المفترس، أعني أسنان المرأة. " هيّا! إن هي إلاّ ضربة واحدة؛ فيهدأ صراخها! ذلك أنها تقذف من عينيها الرهيبتين المركزتين على الطعام المنزوع من بين أنيابها، شراراتِ الاشتهاء.

عجباً! العصى ليست عصى للضحك. ألم تسمعي لحمها يعوي بالرغم من الزغب المستعار! الآن تجحظ عيناها، وتصرخ بفطرتها صراخاً شديداً. وتزند في غيظها بكاملها، كالحديد يدق عليه حامياً.

تلك هي السلوكات الزوجية لهذين المنحدرين من آدم وحواء، خليقة يدك يا إلهي! هذه المرأة شقية بلا منازع، ولو بعد كل ماجرى، فلربما لا تعرف طعماً لنِعَم المجد التي تدغدغها. هناك أنواع من الشقاء أشد وخامة من أن تكون قابلة للعلاج، وبدون ثواب على الابتلاء بها. لكنها ما كانت لتعتقد أبداً، أن المرأة تستحق مصيراً آخر، في هذا العالم الذي ألقيتْ فيه.

و الآن، قد جاء دورنا، عزيزتي المغالية! حين أرى جهنم التي ازدحم فيها الناس تتقد، ماذا تريدين أن أراه في جحيمك الجميل، أنتِ التي لا تجدين راحتك، إلا على فُرُش ناعمة مثل بشرتك، ولا تأكلين إلا اللحم المطبوخ، وحتى يقطعه لك، أجزاءً بلباقة، خادمٌ مهندم؟ " وما عسى تعني بالنسبة إليّ، تلك الأنّات الصغيرة التي يتنهد بها صدرك الفوّاح بالعطر، أيتها المغناج المتمكنة؟ وكل هذه العواطف المستقاة من الكتب، وذلك الضجر غير المتعب، المفتعل، كي توحي كلها لمن يشاهدك، تماماً، بإحساس آخر، عدا الشفقة؟ وإنه لتنتابني الرغبة أحياناً في أن ألقنك: ما هو الشقاء الحقيقي. غادتي اللطيفة، حين تنغمس رجلاك في الوحل، وتلتفت عيناك برهافة روحية نحو السماء، فكأنما لتطلبي إليها أن تهب لك* مَلِكاً، وكأنما أنتِ على الأرجح، ضُفَيدعة خرافية تلتمس المثل الأعلى. فإذا أنتِ احتقرتِ الرافدة) وأنا الآن تلكِ الرافدةُ كما تعلمين(؛ فحذارِِ من الكركي الذي سيقضمكِ ويقتلكِ كيفما يشاء.

" مهما أكنْ شاعراً؛ فلستُ مخدوعاً كما تعتقدين، وإن تُتْعبيني بدموعكِ المفتعَلة، أعاملْكِ معاملة امرأة متوحشة أو أقذفنّ بك، من النافذة كقنينة فارغة".

12

الحشود

لم يتيسر لكل واحد من الناس أن يستحم في حمام السوقة: فالاستمتاع بالجمهور فن، وذلك وحده يمكن أن يحدث تهتكاً حيوياً على حساب الجنس البشري، في مَن بثت فاتنة في مهده، مذاق التنكر والقناع، وبغضاء الإقامة، وولعاً بالرحلة.

طائفة من البشر والوحدة: حدان متساويان قابلان للتحويل بالنسبة للشاعر النشيط والمخصب. إن من لا يعرف أن يملأ عزلته، لا يعرف فقط أن يوجد بمفرده في ضمير جمهور عنه متشاغل.

يستمتع الشاعر بهذه الميزة منقطعة النظير، حتى يتمكن على هواه، أن يكون هو ذاته والآخرين غيره، شأنه شأن هذه الأزواج التائهة التي تبحث عن جسد ما، يسري وقتَ يشاء في شخصية كل واحد من الناس تتقمصه. فكل شيء فارغ بالنسبة إليه وحده، لو بدا له عدد من الأماكن مغلقاً، فلأنه يسقط من عينيه ولا يستحق الزيارة. يجتنب المتنزه المنزوي على نفسه والمستغرق في تفكيره، انتشاءً فريداً لنفسه، بتلك المشاركة الشاملة.

أما ذلك الذي يقترن ذكره بالجمهور في سهولة، فيعرف المُتـَع المحمومة التي ستـُحرّم إلى الأبد، على الأناني المنغلق كخزانة، والخامل، المحجوز عليه في قوقعة كالرخويات. يتبنى على حسابه المهن جميعها، وكل أنواع الأنشطة وكل أنواع البؤس التي تقدمها إليه الظروف.

إن ما يسميه البشر بالحب ضئيل جداً، وجد ضيق، وجد ضعيف، مقارناً بهذا التهتك الفاحش الذي لامثيل له، وبهذا البغاء المقدس للنفس الذي يفرغ جهده كله على الشعر والمحبة، وعلى غير المنتظر الذي ينكشف، والمجهول الذي يحدث.

جميل تلقين البشر المحظوظين أحياناً في هذا العالم أن حظوظاً ممتازة وُجدتْ أوسع وأصفى لخاصيتهم. و ما كان ذلك إلا لإذلال كبريائهم النزق لحظة ما. فمؤسسو المستعمرات وقادة الشعوب، والرهبان المبشرون المغتربون في أقاصي العالم يعرفون بلا ريب شيئاً ما، عن هذه الانتشاءات الغريبة، وسيضحكون أحياناً في حضن الأسرة المنيفة التي تكونت فيها عبقريتهم، على أولئك الذين يبخلون عليهم من أجل ثروتهم المتقلبة، ومن أجل حياتهم العفيفة بهذا الحد.

13

الأرامل

يقول فوفنارغ توجد في الحدائق العمومية مسالك مسكونة بالطموح المحبط خاصة، وبالمبتكرين الأشقياء، وبالأمجاد الخائبة، وبالقلوب المنكسرة، وبكل هذه النفوس الصاخبة والمنغلقة، التي مازالت تدمدم عليها التنهدات الأخيرة لعاطفة ما، وهي ساخطة، والتي تتنامى بعيداً عن النظرة الكبيرة للناس المتنعمين وأصحاب أوقات الفراغ، فتلك الخلوات الظليلة، هي مواعيد المعطوبين في الحياة.

يوجد ذلك بالخصوص في تجاه تلك الأماكن التي يحب الشاعر والفيلسوف أن يوجها إليها تخميناتهما الطموحة. هناك غذاء روحي مؤكد. إذ لو وُجد مكان يحتقران زيارته، كما كنتُ ألمّح إليه بعد قليل، لكان بالخصوص مكان إقامة مباهج حفل الأغنياء.

فهذا الصخب في العراء ليس فيه شيء يجتذبهما. وبالعكس من ذلك، فهما يحسان أنهما منجذبان رغماً عنهما نحو كل ما هو ضعيف، ومفلس، وحزين، ومحروم.

في هذه القسمات الصلبة، أو الخائرة القوى، وهي هذه العيون المجوفة والذائبة، أو اللامعة بآخر ومضات الصراع، وفي هذه المشيات البطيئة أو المهتزة إلى هذا الحد، لا تنخدع عين تجريبية بذلك أبداً، بل تكشف فوراً عن خرافات الحب المخدوع التي لا تحصى، والتفاني المتنكر له، والجهود غير المثوبة، والجوع والبرد المتحملين بخضوع وصمت.

هل رأيت أحياناً أرامل فوق هذه المقاعد المنعزلة، أرامل فقيرات؟ مهما يكـنّ في حداد أو عدمه، فإنه سهل التعرف عليهن، أضف إلى ذلك أنه يوجد دائماً في حزن المخلوق الضعيف شيء ما، ينقص، وغيابٌ للانسجام يجعله أشد إيلاماً. فهو مجبر على أن يضن بماله. أما الرجل الغني، فيحوّل ألمه إلى الهندام المَهيب.

من هي الأرملة الأشد حزناً والمحزنة أبلغ حزن، أتلك التي تجرجر في يدها طفلاً صغيراً لا تستطيع أن تقاسمه حلمها، أم تلك الأرملة التي توجد على انفراد تماماً؟ لا أدري... لقد حدث لي أن تتبعت مرة عجوزاً كئيبة الفؤاد من هذا النوع، أثناء ساعات طوال، تلك العجوز المتصلبة، والمنتصبة تحت شال مستعمل، وكانت تحمل في كل كيانها إباء الأرملة الصابرة في الضراء.

كانت محكوماً عليها طبعاً بعزلة تامة، على غرار عادات العازب المسن، وكان الطبع الذكوري لسلوكها يضيف سراً مهماً إلى تقشف العوانس. تتبعتها في مكتبة للقراءة رخيصة السعر، لقد راقبتها زمناً طويلاً الوقتَ الذي كانت تبحث في الجرائد، عن أخبار منفعة شخصية وذات اعتبار، بعينين نشيطتين مُحرَقـَتين قِدْماً بالدموع.

أخيراً، وفي الزوال، جلست على انفراد في حديقة بعيدا عن الجمهور، لسماع تناغم من تلك التناغمات التي تجود بها موسيقى حفلات أفواج الجنود على الدهماء في باريس، تحت سماء الخريف الفاتن وتحت سماء من تلك السماوات التي تتنزل فيه الحسرات والذكريات أفواجاً.

كان ذلك بدون شك، التهتكَ المصطنع لهذه العجوز البريئة، والعزاءَ الذي كسبته كسباً في يوم من هذه الأيام الثقيلة بلا صديق، وبلا تبادل حديث، وبلا فرح، وبدون نجيّ ربما حباها به الله منذ سنين طويلة! ثلاثمائة وخمساً وستين مرة في العام.

أرملة أخرى أيضاً:

عموماً، لا أستطيع أن أثني نفسي عن إلقاء نظرة ـ إن لم تكن ودية، فعلى الأقل فضولية ـ على حشود من المنبوذين الذين يتزاحمون حول حفل عمومي. فالجوق يصدح عبر الليل بأغاني العيد، وبالنصر أو بالملاذ الحسية. تنجر الفساتين متألقة، وتتلاقى النظرات، فيتمايل أصحاب الأوقات الفارغة المتعبون لعدم قيامهم بشيء ما، ويتكاسلون في تراخ عن تذوق أنغام الموسيقى، فلا أحد هنا سوى الإنسان الغني، والإنسان السعيد، ولا أحد يتنشق أو يتنفس عبير وزفير الاستهتار والمتعة ليعيش بلا هم يشغل البال، لا أحد سوى منظر هذه الدهماء التي تستند هناك على الحاجز الخارجي بالمجان، تلتقط بإعجاب متقطعات موسيقية بالرغم من الريح، وتنظر إلى اشتعال الأتون الداخلي المتلألئ.

ذلك شيء مهم دائماً أن تكبر فرحة الإنسان الغني في عمق عين الإنسان الفقير، غير أنني شاهدت يوم ذاك ـ عبر هؤلاء الناس المرتدين بذلات عمل وأزياء نسائية بسيطة من القطن ـ كائناً كان نبل شرفه يُحدث تبايناً صارخاً مع أي سوقية محدقة به.

كان ذلك الكائن امرأة عظيمة مهيبة، ونبيلة تماماً في مظهرها، وليس لي من ذاكرة تذكر أنني قد رأيتُ مثلَها في المقتنيات من روائع الماضي الارستقراطية، يضوع عطر عفة أبية من شخصها كله. وكان وجهها الحزين والنحيف في انسجام تام مع ثوب الحداد الذي كانت قد ارتدته، وهي أيضاً مثل الرعاع الذين كانت قد اختلطت بهم، والذين لم تكن تراهم، فكانت تنظر إلى مشاهير الناس بنظرة عميقة، وكانت تنصت محركة بلطف رأسها.

رؤية فريدة! قلتُ في نفسي: " حتما إن ذلك الفقر إن وُجد، في ذات الوقت؛ فلا ينبغي الرضى بالاقتصاد المتين، " فيجيبني عن ذلك وجه نبيل جداً: " فلماذا هي تبقى عمداً وسط َ تقوم فيه بمهمة لامعة إلى حد ما؟ "

لكن، اعتقدتُ أنني تنبأت بالسبب ماراً حولها بفضول. كانت الأرملة العظيمة تمسك طفلاً بيدها، حيث ارتدت السواد؛ وكيفما كان سعر الدخول إلى الحفل زهيداً، فربما كان هذا السعر على زهده، يكفي لتسديد حاجة من حاجات الكائن الصغير، وأحسنُ أيضاً، ما فضل عن الحاجة، ولعبة ٌ ما.

وستدخل ماشية على قدميها، تتأمل وتحلم، وحيدة ً ودائماً وحيدة ً، ذلك أن الطفل مشاغب، وأناني، بلا وداعة في طبعه ولا اصطبار، حتى إنه لا يستطيع كالحيوان الخالص، وكالكلب والقط، أن يساعد صاحبه الحميم على الآلام التي يكابدها.

14

المهرج العجوز


ما زال الناس ينتشرون في كل مكان، يظهرون ويبتهجون أيام العطل. وكان ذلك عيداً من تلك الأعـياد الاحتفالية التي يعول عليها المهرجون، صانعو المخارط، وعارضو الحيوانات، وأصحاب الدكـاكـين المتجولون زمنا طويلاً، تعويضاً عن سوء الأحوال الجوية للسنة.

يبدو لي أن العامة هذه الأيام تنسى كل شيء، تنسى الألم والشغل، ويصبح الأمر كذلك بالنســبة إلي الأطفال، وبالنســبة إلى الصغار، فهو يوم إجازة، وهو الرعب اليومـي من المدرسـة الذي مرده إلى أربع وعشرين ساعة.

وبالنسبة إلى الكبار، فهو هدنة أبرمت مع قوى الشر في الحياة، وتوَقف ٌعن العناد والصراع الشاملين .

ينجو رجل المجتمع ذاته، والرجل المشغول بالأعمال الروحية بصعــوبة من تأثـير ذلك اليوبـيل الشعبي. إنهما يمتصان دون أن يرغـبا في ذلك، نصيبهـما من هذا الجـو الاستهـتاري، وبالنسـبة إليّ كباريسي حقيقي؛ فلا ينـقص أن أفحـص كل البـيوت الحقـيرة التي تمشـي اختـيالاً في هذه الأيام الاحتفالية. فظلت تتنافس حقاً فيما بيــنها منافسة عجيبة: تتصايح، وتزعق، وتعوي بدون انقطاع.

كان ذلك مزيجـاً من الصرخـات، ومن الآلات النحاسية النافخة، وفرقعات السـياط، وما انفك أصحاب الذيول مـن الشـعر المـعقود بعــقدة حمراء، والمهرجون المغفلون يشنجون قسمات وجوههم السمراء، البردُ قسا عليهم، والمطر والشمس، وكاـنوا يلقـون نكثـاً وطـرائف من أفانين القول هزلية، متـينة وثــقيلة، تشـبه هزليـات موليير، يلقــونها بثيمات الممثلين الواثقــين بتأثـيرهم على الجـمهور... والأبـطال الهراقل مزهوون بـتزايد أعدادهم، وهم بلا جباه ولا جماجم، كأنهم وحوش الغابة من القردة، ظلوا يتبخترون في أبهة تحت القماطات المغسولة عشية َ تدعو الحاجة إلى ذلك. ومازالت الراقصات الجميلات، شبيهات الغيد الفواتن، يثبن ويتشقلبن تحت ضوء الفوانيس التي كانت تملأ تنوراتهن ألقاً .

لم يكن كل شيء إلا ضوءً وغباراً، وصرخات ٍوفرحاً وصخباً. وما فتــئ بعض الـناس ينفــقون, وآخرون يكــسبون، كذلك؛ فإن الأوليــن والآخـرين مرحون، وظل الأطفال يتعلقون بتنورات أمهاتهم ليشاهدوا أفضل مشاهدة، مشعبذاً متألقاً زاهياً مثل إله، وكانت تطغى على جميع العطـور، رائحة طعام مقلي، كأنه بَخور هذا العيد .

عن كثب، وفي الطرف الأقصى من صف الأكواخ، رأيت مهرجـاً فقير الحال، مقوس الظهر، متساقط الشعر، متداعي الجسم، خائر القوى، عجوزاً عفا عليه الزمن، رأيتُ تهدمـاً إنسانــياً، كأنـما أزيلت عـنه هو نفسُه؛ وذلك عار، جميع تلك المهابات، رأيته يسـتند إلى أعمـدة مخبئه، مخبإ ٍ أشد بؤساً من مخبإ المتوحـش الأبله بلاهة أشـد، الذي كانت ثروته الزهيدة تتبدد ولا تزال تنير أيام شدته الكالحة .

الفرح في كل مكان، والكسب والفجور في كل مكـان، لقد تحقق الخبز للأيام التالية، والانفجار الحيوي المسـعور في كل مكان، هنا الفقر المدقع، والتعاسة المرتداة بغرابة، زيادة في الرعب، والأسمال المضحكة التي كانت الضرورة قد مهدت فيها للتناقض، إضافة إلى الفن. ما كان يضحك، فياله من بئيس ! ولا كان يبكي، ولا كان يرقص أو يومئ بحركات، أو يصرخ، أو يغني أيّ أغنية، لا مرحةٍ أوداع أمرُها للرثاء، ما كان يتضرع، كان أخرس، وغير متحرك في مكانه. كان قد زهد، وكان قد اعتزل، فمصيره قد حُِسمَ فيه.

لكنْ، أيّ نـظرة عمـيقة، غـير قابلة للنــسيان، كانت تتسكع حول الحشد والأنوار التي كان امتدادها المتحرك يتوقف على بضع خطوات من بؤسه المشمئز!

إنني أحس حلقي مخـنوقاً باليـد المرعبـة للهستيريا، وبـدا لـي أن نظراتي كانت مصدومة من خلال تلك الدموع المتمردة، العصيّة عن السقوط. ما العمل؟ ما جدوى ســؤال ذلك البئــيس، وأي فضـول، وأي لعبـة عجيبة كانت عنده ليُـريها آية للنـاظرين، وفي ذلك الظـلام المقـيت، وراء سـتاره الممزق؟

حقاً، لا أتجرأُ، وربما كان من شأن سبب خجلي أن يضحككم، وسأعترف أنني كنـت أخاف إذلاله، وأخـيراً صمّـمْتُ بعد قليل أن أضع وأنا مار، شيئاً من النقود على لوحـاته الخـشبية، عله يحدس مقصـــدي من ذلك، لما جرني اندفاع حشد كبير من الناس، بعيداً عنه إلى الوراء، قد سببته أي بلبلة غير محدودة.

وعند التفاتي إليه، حاصرتني تلك الرؤية، فبحثت في تحليل ألمي المباغت، وقلت في نفسـي: لقد رأيت بـعد قلـيل، صـورة الأديب المسلي اللامـع، ورأيت صورة الشاعر العجوز بلا أصدقاء، وبلا أ ســرة، ولا أولاد، المتدهور بسبب بؤســه، وبسبب التنكر العلني له، وفي الكوخ الذي لا يرغب الناس النسيون في الولوج إليه قط .

15

الكعكة

لقد اعتدتُ على السفر. كان المنظر في الوسط الذي نزلتُ فيه، يبين عن رفعة وأصالة لا يمكن مقاومتهما. هَجَسَ بهما، بلا ريب، شيء ما، في نفسي. كانت أفكاري تتماوج بخفة تعادل خفة تماوُج المحيط الجوي؛ فكانت العواطف الخشنة، أمثال الحقد، وحب الدنيا تبدو لي الآن بعيدة أيضاً، مثل كافة السحب التي مازالت تمر في عمق الهوّات تحت قدميّ؛ حسبتُ نفسي متفتحة تفتحاً واسعاً، وصافية أيضاً مثل قبة السماء التي إنني ملفوف فيها؛ فلم يكن تذكّر الأشياء الأرضية يصل إلى قلبي إلا واهناً ضئيلاً، كرنين نواقيس الأنعام التي ظلت ترعى بعيداً، بعيداً جداً، تحت سفح جبل آخر. أحياناً، كان يمر ظل من سحاب حول البحيرة الجامدة السوداء بعمقها البعيد غوره، كما يمر انعكاسُ ظلِّ معطفِ كائن ٍ عملاقٍ من عمالقة الجو يطير عبر السماء. وأتذكر أن هذا الإحساس الإنساني والنادر قد أ ُحدث بحركة عنيفة صامتة على أكمل وجه، فكان يغمرني بفرحة مزيجة بالخوف: الخلاصة، أنني كنت أحس بالهدنة الكاملة معي أنا بالذات، ومع العالم، بفضل الروعة الحماسية التي كانت قد طوقت كياني، حتى إنني لأعتقد، وأنا في غبطتي البالغة، وفي نسياني الكلي للشر الأرضي جميعه، أنني كنت قادماً من هناك حتى لا أجد الجرائد المضحكة إلى حدما، تدعي أن الإنسان قد وُلد طيباً بالفطرة؛ ـ عندما تجدد مطالبَه المادةُ غيرُ المبدّلة، وكنتُ أفكر في تدارك التعب والتخفيف من أثر الشهية التي أحدثها صعود مديد بهذا الحد، فسحبتُ من جيبي قطعة كبيرة من الخبز، وطاساً من علبة جلدية، وقارورة لشيء من الإكسير الذي كان يبيعه الصيادلة في ذلك الزمان للسياح كي يمزجوه عند الحاجة بماء الثلج.

أخذتُ أقطع بهدوء خبزي لما أثار انتباهي صوت جد خفيف. كان يوجد أمامي كائن صغير رث الثياب أسود، متشعث الشعر، عيناه غائرتان في محجريهما، قاسيتان كعيون القضاة، كانتا تتأملان بشهية قطعة الخبز، وسمعته يتنهد بصوت منخفض أجش على الكلمة: كعكة! لم أستطع أن أثني نفسي عن الضحك وأنا استمع إلى التسمية التي كان يريد أن يشرف بها خبزي الأبيض تقريباً، فقطعتُ له من ذلك الخبز شريحة كبيرة قدمتها إليه. دنا بتؤدة، دون أن يحيد بعينيه عن هدف اشتهائه يتلقف قطعة الخبز بيده، ثم تراجع يتلهف كأنما قد خاف ألا يكون عرضي صادقاً، أو ربما فد عدلت عن ذلك العرض بعدُ.

لكن ، كان قد شقلبه على الأرض، في نفس اللحظة، لم أدر من أين خرج، صغير آخر متوحش، وهو أشبه بالمتوحش الأول الذي قد يمكن للمرء أن يخلط بين صورته، وصورة أخيه التوأم.

تدحرجا بأجمعهما على الأرض يتخاصمان على الفريسة الثمينة، بدون شك، لا أحد منهما يرغب في أن يضحي بنصف الفريسة لأخيه، فقد أمسك الأول المغتاظ بالثاني من شعره، وهذا الأخير قبض على أذن الأول بأسنانه، فبصق جزءً دامياً منها مصحوباً بشتيمة ذات لهجة إقليمية رائعة، فقد حاول المالك الشرعي للكعكة أن يغرز مخالبه الصغيرة في عيني الغاصب للكعكة، وبدوره، فإن هذا الأخير بذل كل ما في وسعه ليخنق بيد, خصمه, في حين كان الآخر يحاول إدخال مكافأة العراك في جيبه. لكن لما استبد به اليأس, استدرك المغلوب حاله ودحرج الغالب على الأرض بضربة الرأس على معدته. ما جدوى وصف صراع كريه, دامَ في الحقيقة أطول زمن لم تشأ طاقاتهما الطفولية أن تنبئ به. كانت الكعكة تنتقل من يد إلى يد. وتُبدِّل الجيب في كل لحظة لكنها تُبدّل أيضا حجمها. وا أسفاه! وحيث إنهما في الأخير منهكان, ولاهثان, وداميان, فإنهما قد توقفا بسبب استحالة متابعة العراك، وليس ثمة، والحق يقال، أي موضوع للعراك، فقطعة الخبز، كانت قد اضمحلت ومشتتة إلى فُتات شبيهة بحبات الرمل التي اختلطت بها. لقد ضبب هذا المنظر رؤية المشهد، تصْمُتُ الفرحة الوقتَ الذي كانت نفسي تطرب فيه قبل أن أرى هذين الغلامين، وكنت قد غبتُ كلية، وظللتُ هناك حزيناً ما شاء الله، أردد في نفسي بلا توقف: " يوجد هناك، والحال هذه، بلد رائع، يُدعى فيه الخبز بالكعك وقطعة من حلوى، نادراً ما تكفي لتتسبب في حرب الإخوة، على أكمل وجه.

16

الساعة

يرى الصينيون الساعة في عيون القطط. ذات يوم، لما كان أحد المبشرين يتنزه في ضواحي نانكين، فطن إلى أنه كان قد نسِيَ ساعته، فسأل طفلاً صغيراً كم تكون الساعة .

تردد غلام الإمبراطورية الإلهية أول الأمر، ثم أجاب يغير رأيه: " سأخبركم بذلك. "ظهر الغلام بعد لحظات قليلة، يمسك بين يديه، هراً قوياً ضخماً، ينظر إليه، حسب الرواية، وجهاً لوجه، فأكد دون أن يتردد: " ما زالت الظهيرة لم تحن تماما ً"؛ وهو ما كان صحيحاً بالفعل.

أما أنا؛ فإن أمِلْ نحو فيلين الرائعة، المذكورة باسمها تحديداً ، والتي هي في آن، تشريف لبنات جنسها، وكبرياء لقلبي، وعطر لروحي، آناء الليل وأطراف النهار، على حد سواء، في غمرة الضوء، أو في الظل الكامد، وفي عينيها الطريفتين...إن أملْ نحوها، أرَ الساعة دائماً بجلاء، ودائماً هي هي، ساعة رحبة، جليلة، واسعة كالفضاء، بدون تقسيم للدقائق والثواني،ـ ساعة ثابتة، لم يُعَلّمْ عليها في ساعات الجدار، على أنها خفيفة مثل آهة، سريع كلمح البصر.

ولو جاء أحد المزعجين ليضايقني أثناء الوقت الذي يتأمل فيه نظري ميناء الساعة المبهج هذا، ولو جاء بعض الجنيين غير النزهاء، والمتشددين، وبعض الشياطين في وقت غير مناسب، ليسألني: " ما الذي ترى هناك ، بعناية مفرطة؟ عمّ تبحث في عينيْ هذا الكائن، هل ترى الساعة فيهما، أيها الإنسان السفيه والخامل؟ " سوف أجيبه بلا تردد: " أجل، أرى -فيهما- الساعة، لقد حان الخلود. "

أليس كذلك، سيدتي، هاهي ذي أمدوحة غزلية، آتية إليك، جديرة حقاً بالثناء، ومفخّمة، أيضاً مثلك بالذات؟

حقاً، إنني قد سُررتُ كثيراً بأن أوجِز لكِ هذا التغزل المتكلف، الذي لا أطلب منكِ بديلَه شيئاً.

17

نصف كرة في خصلة شعر*

دعيني أتنشق طويلاً أريج شعرك، فأغوص فيه وجهي كاملاً مثل رجل ظمآن وُجد في ماء نبع، وأن أحركه كمنديل معطر لأبدد ذكريات في الهواء.

لو كنت تستطيعين أن تدركي ما أراه! كل ما أحس به! وكل ما أسمعه مغموراً بشعرك! تسافر روحي عبر العطور سفرَ البشرِ عبر الموسيقى.

يتضمن شعرك تماماً حلماً، حلماً يفيض بالأشرعة والصواري، يسع بحاراً هائلة، تحملني رياحها المعصرات، نحو مناخات فاتنة، الفضاء أشد زرقة وأكثر عمقاً، وحيث الهواء معطر بالفواكه وبالأوراق، وبالجلد البشري.

أستشف من خضم فرعك ميناءً يكتظ بأناشيد كئيبة، وبرجال أقوياء من كل الأمم، وسفن من كل الأشكال، تُبدي هياكلها الدقيقة والمعقدة، فوق سماء شاسعة الأرجاء، تسترخي فيها الحرارة الأبدية.

أستعيد أبطأ الساعات الممضاة على أريكة ما، في مداعبة ذؤابتك، في غرفة سفينة رائعة، يهدهدها ترنح الميناء غير المحسوس، بين أصيص الزهور، وبين قلل الفخّار المنعشة، فأتنفس في أوار خصلتك المتوهجة، رائحة التبغ الممزوجة بالأفيون وبالسكر؛ أبصر في دجى فرعك لامنتهـى اللازورد الاستوائي متلألئاً، فأنتشي على ضفاف ذؤابتك بروائح ممزوجة بالقار، وبالمسك، وبخلاصة البَخور الهندي.

دعيني أقضم طويلاً فرعيك الكثيفين الفاحمين، فعندما أتكلف عض شعرك اللدن والعاصي، يبدو لي كأنما أستهلك ذكريات.

18

الدعـوة إلـى السـفـر

يقال إنه بلد بديع، "بلد النعيم"، البلد الذي أحلم بزيارته مع صديقة قديمة. بلد فريد، غارق في ضباب شمالنا، وقد يمكننا تسميته الشرق في بلاد الغرب، و"الصين" في أوربا. وبقدر ما أتيح فيه الخيال، بقدر ما صور من الخيال بأناة وإصرار، علماءه ونباتاته الطرية.

إنه بلد حقيقي لـ النعيم، كل شيء فيه جميل، غني، هادئ، وفاضل، يحلو فيه للفخامة، أن ترى نفسها مجلوة في نظام؛ الحياة فيه، ثرة ناعمة للتوق إليها؛ من حيث الفوضى؛ فإن الشغب وغير المتوقع، قد استبعدا؛ السعادة فيه، مقترنة بالهدوء، والمطبخ بالذات شاعري، دسم، ومثير في آن؛ الكل فيه يشبهكم ملاكي العزيز.

أتعرفين هذه الحمى التي تتسلط علينا عند الشدائد القاسية، وهذه النوستالجية للبلد الذي نجهله، وهذا التضايق من حب الاستطلاع ؟ توجد بقعة تشبهك، كل شيء فيها جميل، غني، هادئ وفاضل، الخيال فيها شيد وزخرف صينا غربية، الحياة فيها ثرة ناعمة للتوق إليها، والسعادة فيها مقترنة بالهدوء. هناك ينبغي شد الرحال إليها للعيش، وهناك ينبغي الذهاب للموت فيه !

أجل، هناك ينبغي أن نصبو، وأن نحلم، ونمدد الساعات من خلال اللانهائي للمشاعر، كتب موسيقار لحناً لـ "الدعوة بالفالس ". فمن ذا الذي سيلحن الدعوة إلى السفر التي يمكننا تقديمها إلى المرأة التي نحب، والأخت التي وقع عليها الاختيار ؟

أجل، في هذه البيئة سيطيب العيش – هناك الساعة فيها أبطأ، تتضمن مزيدا من الأفكار، وآلة الساعة فيها ترن سعادة بأبهة أعمق وأكثر دلالة.

فوق دعامات خشبية مضيئة، أو فوق جلود مذهبة، ومن نفائس داكنة اللون، تحيى ببساطة، لوحات تشكيلية وديعة، هادئة مثل نفوس الفنانين الذين أبدعوها. الشموس الراقدة التي تلون قاعة الأكل أو الصالون تلوينا بمثل هذه الأبهة، متسللة من خلال القماشات الرائعة أو من خلال هذه النوافذ العالية المتقنة الصنع بمهارة، التي يقسمها الترصيص إلى أجزاء متعددة. الأثاث وافر، طريف وعجيب، مسلح بالمغالق وبخزائن الأسرار، مثل نفوس مرهفة. تعزف المرايا والمعادن والقماشات والصباغة والخزفيات، هناك للعيون، سينفونية صامتة ومليئة بالأسرار؛ ومن كل الأشياء، وكل الزوايا، وشقوق الأدراج، وثنايا القماشات، يتسرب عطر فريد، معاودة الحنين إلى سُمَّطْرة، عطر مثل روح الشقة.

قلت لك إنه بلد حقيقي لـ النعيم ، كل شيء فيه غني، نظيف، ومتوهج، مثل ضمير صاح، ومثل أواني المطبخ، وحلي متألقة، وجواهر مبرقشة ! تتدفق هناك كنوز العالم، مثلما الحال في بيت رجل مجد، ومن له الفضل في العالم أجمع. بلد فريد، أسمى من البلدان الأخرى، مثلما "الفن" الشرقي أفضل من "الطبيعة" حيث أعاد الحلم صياغة هذه الطبيعة وحيث إنها صُححت، وأعيد انصهارها.

لو انهم يبحثون، ولو أنهم مازالوا يبحثون، ولو أنهم دفعوا وراء بدون توقف الحدود لسعادتهم، هؤلاء الكيماويون القدامى للبستنة ! لو أنهم يقترحون أسعارا من ستين ومن مائة ألف" فلورين" لمن سيحقق رغباتهم الجامحة !

أنا وجدت زنبقتي السوداء و دالياي الزرقاء!

إنها زهرة لا مثيل لها ، عثر عليها ثانية، هي داليا رمزية، إنها هناك، أليس كذلك، في هذا البلد الرائع، الهادئ والحالم بهذا القدر، والذي ينبغي الذهاب للعيش فيه والازدهار.

ألا تصبحين مؤطرة في تشابهك، أولا تستطيعين أن تري نفسك، من أجل أن تتحدثي مثل الرمزيين في تجاوبك الخاص ؟

أحلام ! دائما أحلام ! فضلا عن ذلك؛ فإن النفس طموح ورهيفة، وأكثر من ذلك، تبعدها الأحلام عن الإمكان. إن كل امرئ يحمل في نفسه كمية خفيفة ومتجددة من الأفيون الطبيعي باستمرار، وكم نحسب من الساعات المليئة بالاستمتاع الإيجابي، خلال العمل الناجح والحاسم، من الولادة إلى الممات ؟

إن هذه الكنوز وهذه الزهور المدهشة، لهي أنت، إنها لا تزال أنت، هذه الأنهار العظيمة وهذه القنوات الهادئة. إن هذه السفن الهائلة التي تجر منقولها ، المحملة تماما بالثروات، والتي تتصاعد منها الأغاني الرتيبة لعمال الباخرة، لهي أفكاري التي تنام أو التي تتقلب على شيئك. إنك تقودينها بهدوء، عبر البحر الذي هو اللانهائي، متفكرة كل التفكر في أعماق السماء داخل صفاء النفس الرائعة – السفن متعبة بالتماوج، ومكتظة بنتاجات "الشرق"، وعندما تدخل الميناء مسقط الرأس، فهي أيضا أفكاري الغنية التي جاءت نحوي من اللانهائي.

19

لعبة الطفل الفقير

أود أن أعطي فكرة عن التسلية البريئة. يوجد عدد قليل من التسلية التي قد تكون بريئة. عندما تخرج في الصباح بنية مصممة على التسكع في الطرقات الكبيرة، فاملأ جيوبك بجملة من أدوات اللعب والتسلية بسعر صول واحد، ـ بأمثال الطبق المتذبذب المتحرك بواسطة خيط واحد، ودمى الحدادين الذين يضربون على السندان، ولعبة الفارس وحصانه الذي ذيلـُه عبارة عن صفارة ـ واجعل من ذلك، هدية تقدمها إلى الأطفـال المجهولين، والأطفال الفقراء الذين ستلقاهم طيلة المماتع المسلية، تحت الأشجار. فسترى تلك اللعب تتعاظم في عيونهم تعاظماً فائق الحد. فهم أولاً لا يتجرؤون على أخذهاً فوراً؛ بل سيرتابون من سعادتهم. ثم إن أيديهم ستختطف الهدية برغبة عنيفة، كما تفعل القطط التي تريد أن تأكل القطعة من الطعام التي أعطيتها لها، فقد عرفت كيف تحترس من الإنسان.

ويظل طفل بهيّ،طريّ العود، يرتدي لباس أهل الجبل، مغموراً بالدلال، وراء حديقة فسيحة الأرجاء، على طريق في الطرف الأقصى الذي كان يظهر فيه بياض قصر جميل تنعكس عليه الشمس.

يجعل الترف واللامبالاة والمشهد العادي للثروة أولئك الأطفال من هذا النوع جميلين جداً، ولو أن المرء قد يظنهم خُلقوا من طينة أخرى غير طينة أطفال الطبقة دون المتوسط أو الطبقة الفقيرة.

بجانبه، كانت تضطجع على العشب لعبة أطفال من البهاء بمكان، غضة الإهاب كصاحبها أيضاً، مبرنقة، مذهبة الشكل، مكسوة بفستان أرجواني، ومغطاة بالريش والعقائق. إلا أن الطفل لم ينشغل بلعبته المفضلة، وهاهو المشهد الذي كان ينظر إليه: كان هناك من الجانب المقابل لسياج الحديقة، على الطريق بين الأشواك، ونباتات الحرّيق، طفل آخر، وسخُ الهيئة، هزيلُ الجسم، قاتمُ اللون،وهو واحد من أولئك الصبية المنبوذين، فإحدى عينيه المنصفة قد تكتشف الجمال، وإن كان يغسلها من أكسيد البؤس المنفر للأذواق، كما تكتشف عين العارف الحاذق صباغة مُثلى في تمويه بريق صانع العربات الفاخرة.

وعبر تلك الحواجز الرمزية، التي تفصل بين عالمين: عالم الطريق الكبير، وعالم القصر، كان الطفل الفقير يُري للطفل الغني لعبته الخاصة التي ظل هذا الأخير يختبرها بتلهف كشيء نادر الوجود وغير معروف. إلا أن تلك اللعبة التي كان الخادم الصغير المتسخ ينكد عليها، كانت تتحرك وتهتز في علبتها المسيجة، لقد كانت جرذاً حياً! وبلا شك، كان أهله قد أخرجوا اللعبة من الحياة ذاتها.

وأخذ الطفلان يضاحك أحدهما الآخر بأخوة وصفاء ناجذ متساو في دلالته.

20

هبات الجنيات أو القدر المقدور

كان ذلك، اجتماع الجنيات الكبير، لإجراء قسمة الهبات على جميع المواليد الذين رأوا النور منذ أربع وعشرين ساعة. أولاء أخوات القدر العتيقات والشواذ جميعُهن، وأولاء أمهات الفرح والألم الغريبات الأطوار، كنّ جميعُهن من شتى أنواع الجنيات: كانت طائفة منهن يَبْدون مغتمات ومقطباتِ الجبين، والأخرياتُ يبدون مرحاتٍ وماكرات؛ فقد ظلت الشاباتُ بعضُهن دائماً شاباتٍ، وظل بعضُهن العجائزُ دائما عجائزَ،ومافتئ جميعُ الآباء الذين يؤمنون بـ الجنيات يتواردون؛ وكل واحد منهم يحمل بين ذراعيه مولوده.

وكانت المواهب والملكات والحظوظ المواتية، والظروف القاهرة، متراكمة بجانب المجلس، كمكافآت فوق المنصة، في حفل توزيع المكافآت. ومما كان يكتسي الغرابة هنا، هو أن الهبات لم تكن مكافأة عن جهد؛ بل على العكس تماماً من ذلك، نعمة ً ممنوحة ًلمن لم يولد بعدُ، نعمة ًفي الإمكان أن تحدد مصيره، وأن تصبح أيضاً مصدر شقائه كما هي مصدرُ سعادته. وظلت الجنيات المسكينات جدّ منشغلات، لأن حشد الملتمسين للهبات كان كبيراً، والعالم الوسط المقام بين الإنسان والله، خاضع مثلنا لقانون الدهر المرعب، وتعاقبه اللانهائي، وللأيام، والساعات، والدقائق، فالثواني.

حقاً، لقد ظللن ذاهلات شأن الوزراء يوم انعقاد الجلسة الوزارية، أو كمستخدمي المصرف البلدي مون دو بييته عندما يخول عيد وطني، الإعفاءات المجانية للمستفيدين من القروض؛ بل إنني أعتقد أنهن كنّ ينظرن بين الفينة والأخرى إلى عقرب الساعة بنفاد صبر، شأن قضاة بشر، يجلسون للقضاء منذ الصباح، فلا يستطيعون أن يتوقفوا للحلم بعشاء على الطريقة العائلية، ولا بالتفرغ لبيوتهم الغالية؛ بل يوجد في العدالة فوق الطبيعية شيء من التهور ومن المخاطرة، فلا نعجب أن يوجد مثلُ ذلك أيضاً في العدالة البشرية، فقد نصبح نحن أنفسُنا؛ والحال هذه، قضـاة ظالمين.

ولذلك كن قد ارتكبن ذلك اليوم بعض الهفوات التي قد تعتبر شاذة، إذا كانت الحصافة، وبالأحرى النزوة هي الطبع الأبدي والمميز للجنيات. وهكذا كانت قوة جذب الثروة مغناطيسياً محكوماً بها للوريث الوحيد من عائلة جد غنية، ليس موهوباً بأي معنى من معاني البر، ولابأي اشتهاء بالنسبة للخيرات بتاتاً، والذي إن عليه أن يوجد معانقاً لملايينه بطريقة مدهشة. وهكذا كان قد أُعطِيَ الجميلُ والقوة الشاعرية لابن ٍ أبوه فقيرٌ كئيبُ المزاج، عاملٌ محجريّ كدود في مهنته، ما كان يستطيع بأي وجه من الوجوه، أن يساعد مَـلـَكاتِ صغاره ، ولا أن يُرضِيَ حاجات ذريته التي يُرثى لها.

نسِيتُ أن أقول لكم إن توزيع الهبات في هذه الأحوال الرسمية، أمر نهائي، وإن أي هبة لا يمكن أن تكون مرفوضة. لقد ظلت الجنيات يؤدين ويحترمن عملهن المرهـق المكتمِل، ذلك أنه لم يبق بتاتاً أي هدية، أو خلعة، كي يُرمَى بها إلى كل هذه الحثالة البشرية، حتى إن رجلاً شجاعاً؛ وأظنه تاجراً صغيراً مسكيناً، نهض يمسك بفستان الجنية من البخار المتعددة ألوانُه؛ وقد كانت هي أبعد أن تدركها الأبصار، فصاح في وجهها: "حنانيك! سيدتي! أ فتَنسَيْننا! ما زال هناك ولدي! فلا أحب أن أكون ق دسعيتُ إليكِ بدون جدوى" .

وكان يمكن أن تغدو الجنية مرتبكة، لأنه لم يبق شيء. ومع ذلك؛ فقد تذكرتْ في الزمن المحدد، قانوناً معروفاً جيداً، بالرغم من أنه قلما طبق، في العالم فوق الطبيعي، المسكون بالإلهات الأسطوريات غير الملموسات، صديقات الإنسان، والمجبرات في الغالب على أن يتبنين أهواءه، كالجنيات، والعفاريت، والسرفونيات، والسلفات، وولدان وحوريات البحر،ـ أريد أن أتحدث عن القانون الذي يمنح الجنيات، في حال مشابهة لهذه الحال، يعني في حال نفاد الحصص، مـَلكـَة إعطاء حصة واحدة منها، شريطة أن يكون للجنية المانحة الخيال الكافي لخلقها مباشـرة .

أجابت الجنية الطيبة؛ والحال هذه، بثبات جدير بمقامها: أعطي لولدك، أعطيه، هبة متعة الإعجاب، فسأل صاحب الدكان الصغير بعناد، والذي كان يبدو بلا ريب، أحد أولئك المحتاجين المعروفين إلى هذا الحد، العاجزين عن أن يرتفعوا إلى مقام المنطق العبثي: " لكنْ، كيف متعة الإعجاب؟ المتعة؟ لماذا متعة الإعجاب؟" أجابته الجنية المغتاظة " فعلتُ ذلك متعمدة... فعلتُه متعمدة " مدبرة له ظهرها! وملتحقة بموكب رفيقاتها، فأنشأت تقول لهن: " كيف تجدن هذا الفرنسي العامي المتباهي، الذي يريد أن يعرف كل شيئ، والذي حصل لولده على أحسـن الحصص، فيتجرأ أيضاً على أن يسأل ويناقش في ما لا جدال فيه.

21

المغريات

أو إيروس، وبليتوس، والمجد

صعد شيطانان رائعان وشيطانة، لاتقل عنهما ميزة، الليلة الأخيرة المرقاة السرية على الصعيد الذي يشن فيه الجحيم هجومه على ضعف الإنسان الذي ينام، ويتصل به سراً. وُضعوا أمامي بشكل رائع، وُقوفاً كالطود. كان ينبعث عن هذه الشخصيات الثلاث التي أخذت تنفصل عن الليل البهيم، سطوع كبريتي. وكانت تبدو على وجوههم سمة الفـَخَـار، ويطغى عليهم حب السيطرة، وقد حسبتهم ثلاثتهم آلهة حقيقيين.

كان وجه الشيطان الأول من نوع مبهم، كما توجد ليونة البواخيس القدماء في خطوط جسمه. وكانت عيناه الجميلتان الفاترتان وهما بلون قاتم، تشبهان بنفسجيتين محملتين بأنداء إعصار ثقيلة، وتشبه شفتاه المفتوحتان قليلاً، المباخر الساخنة التي تنبعث منها رائحة طيب من عطارة؛ وكلَّ مرة يعتاد أن يتنفس فيها، كانت تتألق في الفضاء حشرات معطرة بالمسك، حائمة مع حدة أنفاسه.

كان قد تمنطق حول ردائه الأرجواني على سبيل الحزام، بثعبان لامع، مرفوع الرأس، مابرح يلتفت إليه بعينيه المتقدتين بارتخاء. وكانت السكاكين اللماعة وأدوات الجراحة تتخللها غِبّاً قنينات مليئة بالخمور الفاخرة المنحوسة في هذا الحزام الحي. ظل يمسك بيده اليمنى قنينات أخرى كان محتواها من لون أحمر مضيء، وكانت تحمل في علامتها، هذه الكلمات الغريبة: " إشربوا فهذا هو دمي، مشروب منعش، وممتاز"؛ ويمسك بيده اليسرى كماناً ظل يساعده بدون شك، على أن يتغنى بملاذ ّه وآلامه ويشيع به سريان عدوى جنونه، في ليالي السبت.

كانت تسترسل في كاحليه بعض الأحزمة لسلسلة منكسرة من الذهب، فظل ينجم عنها التضايق الذي أخذ يجبره على خفض بصره إلى الأرض، فجعله يتأمل في غرور أظافر قدميه اللامعة والمصقولة، كأنها أحجار كريمة متقنة الصنع.

رمقني نافد الصبر بعينيه الكئيبتين اللتين مازال ينفذ منهما انتشاء ماكر، فقال لي:" لوتشاء، ولو تشاء، لجعلتك سيد الأنام، فتصبحنّ رب المادة الحية، ولجعلتك، علاوة على ذلك، أمهر من النحات، يخلق من الطين مادته؛ وستعرف المتعة بدون توقف، من نفسك بالذات، كي تغفل عن نفسك في الاعتناء بغيرك، و لتجذب إليك النفوس الأخرى إلى أن تمزجها بنفسك " وأجبته: " شكراً جزيلاً! ما عليّ سوى أن أجعل من هذه البضاعة الرخيصة مَن هم، بدون شك، ليسوا بأفضل من أناي البئيسة. وبالرغم من أنني أحس ببعض العار لأن أتذكر، فلا أريد أن أنسى يتاتناً؛ ومع ذلك قد أتنكر لك، أيها الوحش العجوز، فمصنع سكايكينك العجيبة، وقواريرك الغامضة المحتوى، وسلاسلك التي قـُيدتْ بها قدماك، إن هي إلا رموز توضح بجلاء كافٍ عواقب صداقتك. فاحتفظ بهداياك!

لم يكن للشيطان الثاني ذلك المظهر المأساوي والمبتسم في آن، ولا تلك الأساليب التلميحية، ولا ذلك الجمال اللطيف المضمخ طيباً. كان ضخماً، ذا وجه غليظ بلا عينين، وكان بطنه الثقيل يميل على فخذيه، وكان جلده براقاً ومزيناً بالرسوم كأنها صور وشمية لحشد من وجوه صغيرة متحركة تمثل الأشكال المتعددة للبؤس طراً. هناك رجال صغار هزْلى معلقون طوعاً بلا تعب في مسمار؛ وعفاريت صغار دميمو الخلقة نحفاء، أعينهم المتوسلة، وهي تطلب الصدقة أفضل أيضاً من أيديهم المضطربة؛ ثم أمهات عجائز يحملن أجنة جهائض معلقين في أثدائهن المنهوكة. وهناك أيصاً غيرهن.

أخذ الشيطان الغليظ يضرب بقبضة يده على بطنه الضخم الذي كانت تصدر منه حينذاك قعقعة مديدة ورنانة للمعدن الصائت، تتلاشى في تأوه غامض مكون من أصوات بشرية متعددة. وطفق يضحك مظهراً في وقاحة أسنانه العفنة، يضحك ضحكة ًهائلة بلهاءَ شأنَ بعض أبناء البشر في جميع البلاد إذا ما هم تعشوا كما ينبغي.

قال لي ذلك الشيطان: " أستطيع أن أهبك ما تنال به كل شيء، وما يقوم مقام كل شيء، وما يعوضك عن كل شيء! " فضرب على بطنه الضخم الذي قام صداه الرنان بتفسير كلامه الماجن.

أشحت عنه بوجهي متقززاً ثم أجبتُه: " لاأحتاج في استمتاعي بالحياة إلى شقاء أحد، ولا أقبل بثراء كئيب يُحزن النفس مثل ورق الجدران، ولا مثل رسوم المصائب الظاهرة فوق جلدك. أما الشيطانة ؛ فقد أكذبُ إذا لم أعترف بأنني وجدتها فاتنة تسبي العقول عجباً، من أول نظرة إليها. ولتوضيح ذلك الجمال، فقد لاأستطيع أن أشبهه بشيء أحسن عند العودة، سوى مقارنته بذلك الجمال الذي تتسم به الغواني وهن في غاية أنوثتهن، اللائي لا يهرمن بالرغم من ذلك، واللائي يحتفظ جمالهن بسحره نافذاً إلى أعماق شباب ولـّى رجوعه؛ فلا تزال ممشوقة القوام، وذات مظهر استبدادي في آن، وما انفكت عيناها، تمتلكان قوة جذابة، ولو أنهما متعبتان. فكان مما أثـّر فيّ تأثيراً بليغاً لغز صوتها الذي كنتُ أجد فيه تذكراً للأصوات النسائية الواطئة،كونترالتي الأكثر رقة: (صوت موسيقى، مقتبس من الإيطالية (وشيئاً كذلك من بُحة حناجر غسلها شراب العَرق.

وسألتني الإلهة المزيفة بصوت فاتن وغريب: " أتريد أن تعرف قوتي؟ إسمع ".

وعندئذ نفخت نفخة هائلة في بوقها الموشح بالشريط الشبيه بزمارة من خشب، نفخت فيه نفخة شبيهة بعناوين كل الصحف الكونية، فأعلنت عبر ذلك البوق عن اسمي الذي دوّى النطق به هو الآخر، وسط الفضاء، مجلجلاً جلجلة مائة ألف من دوي الرعود، فجاءني مرتداً من خلال صدىً وارد من أقصى الكواكب، هتفت؛ وأنا نصفُ مأخوذ بفتنتها: " ويلك! فها هو ذا التحذلق! " غير أنني وأنا أتفحص المرأة المسترجلة الغاوية بحذر أشد رهافة، بدا لي في غموض أنني أعرفها لكوني قد رأيتها تقارع الكؤوس مع بعض الغرباء من معارفي؛ وقد حمل صوتـُها الأجش إلى أذني ذكرىً من ذكريات ما،لمغنية عاهرة.

كذلك أجبتها بكل استخفاف: " إليك عني! أنا لست مخلوقاً لكي أتزوج بعشيقة أحد أصدقائي الذي لأريد أن أسميه الآن. " أكيد، كنت أمتلك الحق لأغدو فخوراً بإنكار الذات إلى هذا الحد، غير أنني استيقظت لسوء الحظ، فخانتني قوتي كلها، وقلت في نفسي: "حقاً، كان ينبغي أن أستغرق في نعاسي ببطء شديد، لإظهار مثل هذه الوساوس. واأسفاه! فلو استطاعوا أن يعودوا فتـْرةَ أكونُ مستيقظاً لكنت معهم متساهلاً!" ثم إنني دعوتهم بصوت عال، متوسلاً إليهم أن يصفحوا عني، فقد عرضت عليهم أيضاً أن يفضحوني مراراً كما ينبغي كي أنال فضائلهم، غير أنني كنت قد أشبعتهم إهانات، ذلك أنهم بالتأكيد لم يأتوا أبداً.

22

غسق المساء

الشمس توذن بالمغيب. أخذت سكينة هائلة تتنزل على النفوس البئيسة المتعبة بكد يومها؛ فخواطرها تصطبغ بألوان الغسق الناعمة الضبابية. في حين، تصل صرخة عظيمة من أعلى الجبل إلى شرفتي، عبر سحائب المساء الشفافة، صرخة مركبة من طائفة من الأصوات المتنافرة، يحولها الفضاء إلى إيقاع محزن، كأنه إيقاع هدير مد البحر الذي يرتفع مستواه، أو كأنه إيقاع عاصفة تهبّ.

من هم التعساء الذين لا يخفف عنهم المساء روعهم، والذين يتخذون قدوم الليل، كالأبوام النواعق، إعلاناً عن السبت؟ يصل إلى مسامعنا ذلك النعيق المشؤوم من ماريستان المجانين الأسود المقام على الجبل؛ وعندما أدخن متأملاً في المساء، هدوء الوادي الشاسع المحاط بدور متناثرة تناثراً كثيفاً، تشي إليّ كلُّ نافذة من نوافذها: " هاهنا الوئام الآن؛ وهاهنا البهجة في الحضن العائلى! " إنني أستطيع أن أهدهد خاطري الذي حيرته محاكاة الإيقاعات الجهنمية تلك، عندما تهب الريح من الأعالي. يُهيّج الغسق المجانين ـ أتذكـّرُ أن لي صديقين كان الأصيل يُضنيهما تماماً، وكان أحدهما يستخف آنذاك بجميع روابط الصداقة واللياقة، ويسيئ كوحش، معاملة أي شخص يلقاه، فقد رأيته يرمي على وجه مدير الخدم ديكاً جيداً، وكان يعتقد أنه رأى فيه سُبّة ًغامضة لمفامه، وما فتئ المساء المنادي ببوادر اللذات الحسية يعكر أشهاها في ذوقه. ثاني الصديقين تواق إلى المعالي، مُحبَطُ المسعى، يتحول إلى أشرس الخلق وأكثرهم كآبة وتنكيداً كلما كاد النهار ينقضي، فلا يزال متساهلاً ومحباً لمعاشرة الناس خلال النهار، ويمسي عديم الشفقة في المساء؛ ليس فقط على غيره من الناس، بل حتى على نفسه هو بالذات إذ يمارس عليها عادته الغسقية المستهجنة.

مات الأول مجنوناً، وقد عجز عن التعرف على زوجته وولده؛ والثاني يحمل في نفسه انشغال البال بانحراف المزاج الأبدي، فلعله كان مُـنْعماً عليه بجميع الأمجاد التي من شأنها أن تكسبه امتيازات الجمهوريات والأمراء، وأعتقد أن الغسق مازال يُشعل فيه الرغبة المحركة للامتيازات الوهمية. وما انفك الليل ينوء بظلماته على نفسيهما، ويومئ بالضوء إلى نفسي؛ ومع أنه لن يكون نادراً رؤية السبب ذاته يُحدث فعلين مضادين، فإنني دائماً إنسان قلق ومتخوف.

أيها الليل! أيتها الظلمات الندية! أنتن بالنسبة لي إعلان عن ابتهاج داخلي، وأنتن خلاصي من قلق ما! تتلألأ النجوم في عزلة البحر، و اتقاد الفوانيس في المتاهات الحجرية لعاصمة من العواصم، فأنتن النار الأسطورية لعيد الإلهة الحرية أيها الغسق، كم أنت ندي الأجواء، لطيف النسيم! فكأن الومضات الوردية التي مازالت تتبعثر خيوطها في الآفاق، احتضار النهار تحت هيمنة الليل، فأنوار القناديل التي تحدث بقعاً من لون أحمر كامد حول الأمجاد الأخيرة للشمس الآفلة، والأثواب الثقيلة التي تجذبها يد خفية من أعماق المشرق، تحاكي جميع المشاعر المعقدة التي تصارع ساعات الحياة المعدودة المهيبة في صدر الإنسان. وكأنما هي أيضاً فستان من تلك الفساتين الغريبة ترتديه الراقصات كشف فيه نسيج حريري شفاف ومعتم عن المحاسن الباهتة لامرأة متألقة، وكأنما ذلك الفستان يخترق الماضي البهيج أثناء سواد الظلام الحاضر، وقد نُشرت فيه النجوم الذهبية والفضية المترنحة انتشاءً، فتجسدُ تلك الأنوار الخيالية المبدعة التي لا تتقد اتقاداً سوى في حضن الليل البهيم.



* التلميح إلى إحدى حكايات لافونتين : الضفادع التي تطلب مَلِكاً،إذ طلبت من جوبيتر أن يرسل إليها ملكاً، فتتلقى منه رافدة صغيرة – عارضة خشبية- وقد أفزعتها. لكن الضفادع جنت على نفسها لعدم رضاها بالعارضة، فأرسل عليهن جوبتير بعدذلك كركياً، يقضمهن ويقتلهن، يلتهمهن كما يحلو له.

* UN HEMISPHERE DAN UNE CHEVELURE

Laisse-moi respirer longtemps, longtemps l'odeur de tes cheveux…

*نصف كرة في خصلة شعر من أروع قصائد نثر بودلير. إلا أن هذا العنوان في حاجة إلى توضيحات،نظراً للإغرابية التي يكتسيها. الفقرة الأولي تقوم مقام التمهيد لفكرة الشاعر إذ تبتدئ بتوسله " دعيني..."فالمتكلم يلتمس إذتاً من مخاطبه بأن يدخل معه في اتصال مباشر عن طريق شَعره فضمير المتكلم moi يعود على بودلير الحالم، وقد تنزل بتفريد ضمير المخاطبة مما يفسر العلاقة الحميمية بينهما، بعد رفع الكلفة، والدخول في اتصال مباشر مع خصلة الشعر أو الجديلة، عن طريق حاسة الشم.ثم تنتهي القصيدة بخلاصة لتأكيد فكرة الشاعر.فثيمات القصيدة تتجلىفي الملاذ الجنسية، والحلم،والسفر، وعشق الأشياء الغريبة، مما يوطد أسس القصيدة. ويترجم العنوان"نصف كرة..."ضمنياً استعارة كونية فعلاً،إذ يعود على النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، فضلاً عن ذلك، تدل عبارة" dans " أن شيئاً ما يحدث في الداخل ذاته للجديلة، حيث إن النصف الآخر لما بعد الجديلة، يمثل جزءاً من العالم الحي المكتسي بالحياة، كما تعبر القصيدة عن السفر غير المتنقل، السفر عبر الأزمنة في نطاق الحلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق