الاثنين، 22 مارس 2010

بودلير

الخـلـوة

قال لي صحافي محب لليشر: إن الاعتزال مضر بالإنسان؛ ولمساندة أطروحته يستشهد مثل جميع الجاحدين بكلمات أحبار الكنيسة .

أعلمُ أن الشيطان يتردد عادة على الأماكن المقفرة، وأن الميل إلى القتل والدعارة ليتقد اتقاداً عجيباً في الخلوات. لكن قد يكون ممكناً أن هذه الخلوة ما كانت خطيرة سوى على النفس الخاملة الهائمة التي تملؤها بأهوائها وأوهامها.

أكيد أن ثرثاراً ترتكز رغيته القصوى على إلقاء كلامه البلاغي من أعلى المنابر، أومن منصة ما، قد يجازف عشوائياً ليصبح معتوهاً حانقاً في جزيرة روبينسون. فلا أطالب من صاحبي الصحاقي أن يتحلى بالشجاعة المثلى التي تحلى بها روبينسون كروزويه، بل أطالبه أن يتحرى الدقة في اتهام عشاق الخلوة وأصحاب الأسرار الخفية.

يوجد في سلالتنا الثرثارة المزعجة أشخاص ربما يواجهون بقليل من الخوف حكم الإعدام لو أتيح لهم أن يخطبوا خطبة مطنبة من أعلى منصة الإعدام، دون أن يخافوا أن يقطع حبل كلامهم جنود سانتير، قارعو الطبول، في وقت غير وقت الكلام. إنني لا أشفق عليهم لأنني أحدس أن جيشان صدورهم الخطابي يزودهم بالملذات المساوية للملذات التي يجنيها الآخرون من الصمت والتأمل؛ غير أنني أحتقرهم. وكم رغبت في أن يدعني صاحبي الصحافي الملعون أتلهى كما أشاء. فقد قال لي في زي منافق مرشد: " ألم تجرب أبداً ضرورة اقتسام مباهجك مع أحد؟ " أوَ رأيتم ذلك الصحافي الحسود الحاذق! هو يعلم أنني أزدري مباهجه، فيتدخل الساعةَ في مباهجي، فياله من معكر بشع لأجواء البهجة! فقد ورد في بعض كتابات لابرويير قوله: " ما أشقى الشخص الذي لا يقدر على أن يتحمل وحده الخلوة!" فكأنما ليفضح جميع أولئك الذين يسعون لنسيان أنفسهم وسط حشد العامة، بل يخشون بلا شك، ألا يستطيعوا تحمل أنفسهم.

وقال حكيم آخر وأظنه باسكال : " أكثر بلايانا تصيبنا بسبب عدم قدرتنا على البقاء في غرفنا." وأذكـّر بالمحبس التأملي أيضاً، جميعَ أولئك المجانين الذين يبحثون عن السعادة في الحركة، وفي بغاء أجيز لنفسي أن أسميه بـ بغاء أخوي، إذا ما أردتُ أن أتحدث لغة عصرنا الحالي.

24

المـشـاريـع

كان يقول في نفسه، وهو يتنزه في حديقة واسعة الأرجاء بمفرده: " كم تصبح جميلة في لباس القصر غير العادي والفخم، تنزل في مشيتها وسط نسيم جو مسائي صاف، درجات مرمرية لقصر مقابل للمروج الكبرى والأحواض! ولما مر بعد ذلك في أحد الشوارع، توقف أمام متجر للنقوش، فقال في نفسه، وقد وجد في علبة من الورق المقوى قالباً يمثل منظراً مدارياً: " كلا! فليس في قصر أهفو إلى ان أمتلك حياتها الغالية. فربما لن نوجد في بيتنا، أضف إلى ذلك، أن تلك الجدران المرصعة بالذهب قد لاتتيح لنا مكاناً لتعليق صورتها، فلا يوجد ركن لتبادل المودة في تلك الأروقة الرسمية. فهناك حتماً ينبغي الإقامة لغرس حلم حياتي. "

أخذ يتابع بعينيه ذهنياً ذلك النقش منقباً تمام التنقيب: "على شاطئ البحر كوخ من خشب رائع، محفوف بكل تلك الأشجار العجيبة والمضيئة التي إني نسيت أسماءها...،وفي الجو، شذىً يسكر النفس غامض يخلب الألباب...، وفي الكوخ عطر نفاذ من الورد والمسك، وبعيداً وراء مِلـْكنا الصغير، فالصواري تهدهدها الأمواج الصاخبة...،وحولنا وراء الغرفة المضاءة بنور وردي خففته ستائرها، وزخرفه حصير القصب المتموج الطريّ والأزهار المثيرة للملاذ الحسية، مع الكراسي النادرة المزينة بزخارف غريبة، من خشب ثقيل وقاتم )فربما هي قد اعتادت أن تستريح فيه مهوّاة تهوية جيدة تدخن التبغ الممزوج خفيفاً بالأفيون( ووراء شرفةٍ هنديةٍ شفافةٍ صخبُ الطيور المنتشية بالنور، والثرثرة المنكدة لبنات زنجيات...،ولإشباع أحلامي بالدلال في الليل، ينوح نشيد الأشجار موسيقياً، وأشجار الفلاو الكئيبة، أجل، فهناك حقاً الزخرفة التي مازلت أبحث عنها. فما أصنعه بالقصر؟"

وبعيداً جداً، حيث إنه كان يسلك طريقه في شارع كبير، فقد شاهد نزلاً مفرطاً في النظافة مافتئ ينحني فيه رأسان ضاحكان من نافذة أدخلت عليها البهجة َستائرُ من النسيج القطني البسيط المبرقش، وفي الحال، قال في نفسه: " ينبغي أن يكون حلمي جوالاً كبيراً للبحث في الآفاق البعيدة عما هو قريب مني. فالمتعة والسعادة يوجدان في النزل الأول الآتي، في نزل المصادفة الخِصْب بالملاذ الشبقية. نار متقدة اتقاداً عالياً، وخزف جذاب، وعشاء مقبول، ونبيذ غير مقتول، وسرير جد عريض بغطاءات خشنة فليلاً لكنها رطبة؛ فما الأحسن؟ " ولما دخل وحده بيته، تلك الساعة التي لم يخنق فيها لغطُ الحياة العادية أنفاس مجالس الحكمة، قال في نفسه: " أملك اليوم في الحلم ثلاثة مساكن وجدتُ فيها متعة بديلة، فلماذا الخوف من أن يغير جسمي المكان، إذ أن روحي تسافر برشاقة؟ وما جدوى تنفيذ مشاريع إذ أن المشروع في ذاته متعة كافية؟ "

25

دوريتيه الجميلة

الشمس تصلي المدينة ناراً بضوئها المستقيم المرعب؛ الرمال متألـقة والبحر يلمع. ينهار العالم المخدر ارتخاءً فيقــيل قــيلولة تشبه نوعاً من الموت اللذيذ يذوق فيها الراقد ملاذ ّ فنائه الشبقي نـصفَ غافٍ. في حـين أن دوريتيه القوية الجمــيلة المترفعة فخـاراً كالشمس، تتقدم في الشـارع الخالي، وحيدة نشيطة في تلك السـاعة، تحت هيمنة اللازورد الهائل، فتشكل تحت الضياء بقعة بهية وسوداء. تتقدم، تــميس ارتخــاءً بقدها الممشوق الممتد إلى وركيها الواسعين. يختلف فستانها الحريري اللصوق بجسدها، من لون فاتح ووردي، اختلافاً بيناً عن سواد بشرتها الدامسة، ويتطابق تماماً مع قامتها الطويلة، وظهرها المقعر وعنقها المستدق.

تخفف مظلتها الحمراء الضوء، فتـُسقط على وجهها الداكن، ما تعكسه من أضواء قانية بلون الدم . من حين لآخر، يرفع نسيم البحر خلال منفذ هبوبه، تنورتها الواسعة فتنبئ عن ساقها البضة الرائعة، وتطبع قدمهاـ الشبيهة بأقدام إلاهات مرمرية أوصدت أوروبا دون الوصـول إليها أبواب متاحفهاـ تطبع بدقة متناهية، شكلها على الرمال الناعمة. ذلك أن دوريتيه مغناج غنجاً مدهشـاً، حتى إن متعتها بكونها راقت الناس، تستولي عندها، على كبرياء الفتاة المتحررة؛ وهي تسـير حافية القدمين حتى تغدو متحررة تحرراً تاماً .

هكـذا تتقدم متناسقة الخطـى، سعـيدة بعيشـها، فيسـفر ثـغرها عـن ابتسامة بيضاء، كأنما كانت تشاهِـدُ من بعـيد، في الفـضاء، مرآةً تعكس مشيتها وجمالها. فبأي حجة قوية تنخدع دوريتيه المتوانية، الجميلة والباردة مثل البرونزالوقت َ الذي تـتأوه فيه الكلاب نفسـها من الألم تحت الشمس التي تعضها؟ لماذا غادرت كوخها الصغير المرتب برشاقة فائقة والذي تجعل منه أزهارُه، وحصيرُه القصبي المتموج ، بقليل مـن التكالـيف، صــالوناً صغيراً ممتازاً ؟

أين تمارس كثـيراً من مـُتـَعِـها لتتمشط ، وتدخـن، وتهوّي عنها بالمروحة أو لتنظر إلى نفسـها في المرآة، خلف مروحياتـها الكبيرة المصــنوعة من الريش، مادام البحر الذي يذرع الشاطئ على بعد مائة خطوة من هنـا، يوفر لأحلام يقظتها الغامضة قريناً قوياً ومملا ّ ً،ومادامت القدر من الحديد التي يطهو فيها السلطعون بالأرز والزعفران، ترسل إليـها من فناء عمق البيت أنواعاً شتى من العبير المهيجة؟

لعل لها موعداً على الشواطئ البعيدة، مع بعض الضباط الشـباب، ممن سمع رفاقه يتحدثون عن دوريتيه الشهيرة .

وبدون شك ، ستتوسل إليه تلك المخلوقة الساذجة، أن يصف لها رقصة البال المقنع للأ وبرا، وستطلب منه فيما إذا كان في إمكانهما الذهاب إلى ذلك المكان، حافيي القدمين، كما هو الشأن في رقصات يوم الأحد، إذ تغدو فيه العجائز القفاريات أنفسهن منتشياتٍ خمراً، وهائجات ٍ من الـفرح، ثم أيضاً إذا كانت نساء باريس الجميلات كلهن أجمل منها. تـُعجب دوريتيه الناسَ، ويدللها الجميع .

وربما تصبح سعيدة في منتهى الكمال إذا لم تضطر إلى جمع قرش وراء قرش لافتداء أخــتها الصغـيرة التي اسـتوفت أحــد عشر عاماً، والتي هي ناضجة بعد، وجميلة! وستوفق دوريتيه الخادمة في مسـعاها بلا شك، فسيد الفتاة بخيل، وأشد بخلاً عنده أن يتفهم جمالاً آخر غير جمال النقود!

26

عيون الفقراء

آهٍ! تريدين أن تعرفي لماذا أمقتكِ اليوم. بدون شك، سيكون ذلك لكِ أقل سهولة لفهمه من أن أشرحه لكِ أنا؛ ذلك أنك أروع مثال لانعدام الإحساس النسائي الذي يمكن للمرء أن يصادفه. كنا قد أمضينا كلانا يوماً طويلاً بدا لي قصيرا. وكنا قد تواعدنا على أن تصبح جميع أحلامنا مِلـْكاً مشتركاً لبعضنا البعض، وألا تغدو نفسانا فصاعداً سوى نفس واحدة؛ ـ حلم لا يشي بالجديد، بعد كل ما جرى، فلو لم يكن سوى أن جميع البشر يرومونه، لما كان قد حققه أحد.

في المساء، وأنت متعبة قليلاً، أردت أن تجلسي أمام مقهى جديد مازال ممتلئاً كله بالأنقاض، ويكشف بعد، بفخار عن فخامته غير الممتعة، كان المقهى يتلألأ، فاخذ غاز الوقود يبث كل النشاط لبداية ما، فيضيئ بكامل طاقاته الجدران التي تخطف الأبصار ببياضها، وطبقة المرايا الفاتنة، والتماعات العِصيّ والأفاريز، ووجوهاً ذات خدود ممتلئة يصطحب أصحابها كلاباً محكمة بزمام شدّها وقيادها، والسيدات يضحكن لذلك النسر الجاثم فوق قبضتهن، والحوريات والإلهات يحملن على رؤوسهن فواكهَ، وفطائرَ محشوة، ولحمُ صيد، وإلهاتُ الشباب، وصورُ الغانميد ساقي الخمر في مأدبة الآلهة يقدم بيد ممدودة الجرة الصغيرة المملوءة بالبفارية المثلجة أومسلةٍ ذات لونين من ثلجيات مختلفة الألوان، فالحكاية كلها، والأسطورة بأجمعها، قد وُضعتا في خدمة الشراهة.

أمامنا مباشرةً، وعلى قارعة الطريق، أمسى منتصباً إنسان طيب في نحو الأربعين من عمره، ذو وجه متعب، ولحية شائبة، يمسك بيد طفلاً صغيراً، ويحمل في اليد الأخرى كائناً صغيراً أضعف من أن يمشي على قدميه. مازال يباشر مسعى الخير؛ فكان يتيح لأولاده التنزه مساءً في الهواء الطلق. جميعهم متسربلون في الأسمال. كانت تلك الوجوه الثلاثة مجدة للغاية، وتلك العيون الست تمعن النظر في المقهى الجديد بإعجاب مماثل، لكن بتنوع مختلف في العمر.

أخذت عينا الأب تقولان: " يا لجماله! يالجماله! فكأنما قد أتى ذهب العالم كله ساعياً ليوضع على هذه الجدران" ـ ، وما فتئت عينا الولد الصغير ترددان: "يا لجماله! يالجماله! لكن ذلك بيت يمكن أن يدخله الناس الذين ليسوا مثلنا وحدهم" ـ أما عينا أصغر طفليه، فقد كانتا أكثر افتتاناً من أن تعبرا عن شيء آخر غير فرح تافه وعميق.

يقول ملحنو الأناشيد وملقو الطرائف: إن المتعة تجعل النفس طيبة وتلين القلب. فقد صدقت الأنشودة ذلك المساءَ بالنسبة إليّ. كوْني متأثراً فقط بهذه العصبة من العيون، بل كنت أحس أنني خجول قليلاً من كؤوسنا، ومن أكوازنا الأكبر عطشاً منا، فأخذت أقلب نظراتي باتجاه نظراتك، يا حبيبتي العزيزة كي أقرأ فيها حلمي، فشرعت أغوص في عينيك الخضراوين، المسكونتين بالنزوة واللتين يلهمهما القمر حين تقولين لي: " هؤلاء الناس لم أحتملهم بعيونهم المفتوحة كأبواب العربات! ألا تستطيع أن تتوسل إلى صاحب المقهى بأن يبعدهم من هنا؟ " طالما الحلم غيرُ مفشىً حتى بين الناس الذين يتحابّون، فما أصعبَ أن يتفاهم اثنان يا ملاكي العزيز!

27

موت بطولي

ظل فانسيولو مضحكاً يثير الإعجاب، وشبه صديق من أصدقاء الأمير. لكن الأشياء الجديدة لها ألْهياتٌ مسرحية مغرية بالنسبة إلى الأشخاص الذين هيأتهم الأقدار لتعاطي الفكاهة، ودخل فانسيولو يوماً في مؤامرة حبكها بعض النبلاء المستاءين، ولو يمكن أن يبدو غريباً أن الأفكار الحزبية والحرية قد هيمنت هيمنة استبدادية على عقل المضحك.

يوجد في كل مكان رجال محسنون كي يبلغوا السلطة عن هؤلاء الأشخاص الفكاهيين الكليمة أمزجتهم، الراغبين في عزل الأمراء، ويهمون بتغيير مجتمع ما، دون استشارته. وكان السادة المفكرون قد اعتقلوا مثلما اعتقل فانسيولو، وهيئ لموت محقق. قد أصدق بسهولة أن الأمير أوشك أن يستاء من عثوره على ممثله الأثير من يبن المتمردين، فالأمير لم يكن أسوأ ولا أحسن من غيره من الأمراء، غير أن إحساساً طاغياً ما فتئ يجعل منه في كثير من الأحوال أقسى وأعتى من جميع أمثاله. فلما هام وأُغرم بالفنون الجميلة ـ أضف إلى ذلك أنه الخبير بأمورها ـ فقد ظل حقاً نهماً في الملاذ الحسية محْتاً قيها. و ما كان الفنان الحقيقي نفسه بعرف من عدو حقيقي له سوى الكآبة، حال َ عدم مبالاته نسبياً بالبشر والأخلاق كما تنبغي المبالاة، فلو سُمح له أن يكتب في مجالاته فقط شيئاً لم يَمِلْ به، كيفما كان أمره إلى المنفعة أو الاندهاش، وهو شكل من أرقّ أشكال المـُتـَع، إذن، لكانت قد اجتذبته بالتأكيد، من قِبَل مؤرخ قاسي القلب ـ النعت للوحِش ـ تلك الجهود غير المألوفة التي كان يبذلها ليتهرب أو ينتصر على ذلك المستبد بالناس، فكانت مصيبة هذا الأمير الكبرى أنه لم يكن له أبداً مسرح فسيح بما فيه الكفاية، ليحقق نبوغه. هناك شبان من أتباع نيرون تضيق أنفسهم في الحدود الضيقة جداً، وستظل الأجيال القادمة تجهل نيرون وعزيمته الصادقة. وكانت العناية الإلهية المتساهلة قد أعطت نيرون مَلـَكاتٍ أعظمَ من ملكات رجال حكومته الإمبراطورية. وقد أشيع فجأة أن العاهل كان يعتزم العفو عن جميع المتآمرين؛ وكان مصدر هذه الإشاعة هو الإعلان عن عرض مسرحي ضخم سيقوم فيه فانسيولو بدور من أدواره الرئيسية وأحسنها، وأضاف ذوو العقليات السطحية أنه: حتى النبلاء المدانون قد يحضرونه؛ كدلالة واضحة على أن الأمير المهان يمتلك ميولاً كريمة نزّاعة إلى الرأفة.

كان كل شيء ممكناً أيضاً من قِبَلِ إنسان غريب الأطوار طبعاً، وبسهولة، حتى الفضيلة، وحتى العفو، خاصة لو كان قد استطاع أن يأمل من ذلك، العثور على المُتـَع العابرة. أما بالنسبة لمن كانوا قد استطاعوا قبلُ، أن يتوغلوا مثلي أبعد مدىً في أعماق هذه النفس العجيبة والمريضة، فقد بات أكثر احتمالاً، إلى أبعد حد، أن الأمير كان يريد أن يصدر حكماً مسبقاً على المواهب المسرحية لرجل حُكِمَ عليه بالإعدام. كان يود أن ينتهز الفرصة كي يقوم بتجربة فزيولوجية عن منفعة أساسية *، وأن يتحقق في: إلى أي مدى يمكن أن تكون المَلكات العادية لأحد الفنانين مشوهة، أوتغيرها الوضعية غير العادية التي يوجد عليها ذلك الفنان، وأبعد من ذلك، فهل توجد في نفسه نية تتوقف تقريباً على الصفح؟ إنها نقطة مازالت لم تتضح. وجاء أخيراً يومُ الزينة، فقد نشر هذا الرواق الصغير كل أنواع حلله البهية الفخمة، وربما يصعب ـ إلا إذا كان ذلك مرئياً ـ تصور ما يمكن أن تكشف عنه الطبقة المحظوظة في دولة صغيرة ذات إيرادات ضئيلة، من أنواع الفخامة، من أجل إقامة عيد احتفالي حقيقي. وكان ذلك العيد حقيقياً من الوجهتين، أولاً من خلال وفرة مظاهر الفخامة المعروضة، ثم من خلال الفائدة المعنوية والمبهمة التي كانت ترتبط به.

كان السيد فانسيولو يمتاز بالأدوار الصامتة خاصة، أو بالأدوار التي يتخللها قليل من الكلام، وهي في الغالب، الأدوار الرئيسية في تلك المسرحيات العجيبة التي يكمن موضوعها في تقديم أسرار الحياة رمزياً، فقد دخل المسرح بخفة وسهولة تامة، مما ساهم في ترسيخ فكرة اللين والصفح في نفس الجمهور النبيل. عندما يقال عن ممثل ما،: " ذاك ممثل جيد "، فإنما يستخدم ذلك القول بصيغة تتضمن أنه مازال يُكتشف الممثل من خلال الشخصية التي يتقمصها، أي من خلال الفن، والجهد، والإرادة. بيد أنْ لو استطاع إن يكون بالنسبة للشخصية التي هو مكلف بالتعبير عنها، ما قد يصبح أحسن تماثيل العصور القديمة، المتحركة بأعجوبة، والحية، السائرة، والرائية، في الفكرة العامة والغامضة للجمال نسبياً، لأصبح بدون شك، حالة فريدة وغير متوقعة تماماً، فقد مثل فانسيولو ذلك المساء تمثيلاً منمقاً ممتازاً للشخصيات، ولو بات مستحيلاً عدمُ التصديق بحياتها وإمكانية وقوعها. كان هذا المضحك يذهب ويجيء، يضحك ويبكي، ويرتعش بصحبة إكليل لا يمَسّه البلى حول رأسه، إكليل لا يراه الجميع، لكنني أراه، وما فتئت تمتزج فيه أشعة الفن ومجد الشهيد في خليط غريب، بواسطة رقة ما، غير عادية، فكان فانسيولو يُدخل في تهريجا ته الأكثرِِ غرابة الربانيَّ والخارقَ للطبيعة. وبينما أحاول أن أصف لك هذه الأمسية التي لاتُنسى، ارتعد قلمي، وجاش صدري بدموع عاطفة لا تزال ماثلة اغرورقت بها عيناي، وأمسى فانسيولو يبرهن لي بطريقة جازمة لايمكن دحضها بأن نشوة الفن أكثر قبولاً من أي نشوة أخرى لإخفاء رعب الهوّة؛ في حين أن النبوغ يمكن أن يمثل صاحبُه ملهاة على حافة القبر، بنشاط يحول بينه وبين رؤية القبر، تائهٌ كأنه موجود، في فردوس يستبعد أي فكرة عن القبر والإبادة.

كل هذا الجمهور المتقزز والعابث حتى أمكن أن يوجد، يخضع بعد قليل لقوة الفنان المهيمنة، فما حلم أحد بالموت وبالحزن، ولا بعذاب الجحيم، فقد استسلم كل واحد بدون انشغال حال، للملاذ الحسية المتعددة التي تعطي نظرة عن عمل رائع لفن حي. وقد هزت توهجات الفرح والإعجاب مراراً أعمدة البناء بقوة صاعقة متتابعة، فالأمير المنتشي نفسه قد مزج تصفيقاته بتصفيقات بطانته.

ومع ذلك، بالنسبة إلى عين بعيدة النظر، فإنها ترى انتشاءه لم بكن بدون خلط في الأمور. أيحس نفسه مهزوماً في سلطته الاستبدادية، أم مهاناً في فنه لإرهاب القلوب وتثبيط الهمم؟ أمحروم من تمنياته أم أزري به في تنبؤاته؟ اجتازت خاطري مثل هذه الفرضيات غير المبررة تماماً، لكنها حتماً ليست مبررة، بينما كنت أتأمل وجه الأمير الذي علاه شحوب جديد أخذ يضاف بدون توقف إلى شحوبه العادي كالثلج يضاف إلى الثلج، كانت شفتاه تتشنجان أكثر فأكثر، وعيناه تتلألآن بحمية تشبه حمية الغيرة والحقد حتى لما كان يصفق جهاراً على مواهب صديقه القديم، المضحك الغريب الذي يهزأ هُزُؤاً بالموت، فرأيت سموه في وقت ما، قد انحنى على وصيف صغير أُجلس وراء سموه، فهمس إليه في أذنه. التمعت سحنة الطفل الوسيم الخبيثة بابتسامة، ثم غادر الشرفة الأميرية كأنما ليوفي بما عليه من مهام استعجالية، وبعد بضع دقائق، دوّى صفير حاد، ممتد، فقطع على فانسيولو إحدى أحسن لحظاته، ومزق الأسماع والقلوب في آن، ومن مكان في القاعة كان قد تفجر فيه ذلك الاستهجان الطارئ، ألقى طفل بنفسه على ممشىً بضحكات مختنقة يحاول كتمها. اهتز فانسيولو، فاستيقظ من حلمه، وأغلق عينيه أولاً، ثم عاد ففتحهما تقريباً في الحال، وسّعهما بإفراط، ثم فتح بعد ذلك فمه، ليتنفس الصعداء في اختلاج، فتمايل قليلاً إلى الأمام، وقليلاً إلى الوراء، ثم سقط متماوتاً فوق الخشبة. أكان الطفل، السريع كالسيف، قد خيب ظن الجلاد حقيقة، أم كان الأمير فد تنبأ بالتأثير القاتل لخديعته؟ جاز الشك في ذلك، وهل تأسف على عزيزه فانسيولو المعجزة؟ طريف ومستساغ تصديقه.

كان النبلاْء الأقدمون قد استمتعوا للمرة الأخيرة بعرض الملهاة، وفي ذات الليلة، كانوا قد أزيلوا من الحياة.

ومنذ ذاك، جاء ممثلون إيمائيون عديدون مستحسنون بالضبط من مختلف البلدان ليمثلوا أمام قصر الـ ... لكن، لا أحد منهم استطاع أن يتذكر المواهب الرائعة لـ فانسيولو، ولا أن يسمو إلى نفس مقامه ولا حتى أن يبلغ فضله.

28

النقود المزيفة

بما أننا ابتعدنا عن مكان بيع التبغ، فإن صديقي قام بفرز متقن لنفوده؛ فقد انزلقت من الجيب الأيسر من صدريته قطع صغيرة من الذهب؛ ومن الجيب الأيمن قطع فضية؛ ومن الجيب الأيسر لسرواله الداخلي، ركام من الفلوس المعدنية التافهة، وأخيراً، انزلقت من الجيب الأيمن قطعة فضية من فئة فرنكين ظل يفحصهما فحصاً خاصاً.

قلت في نفسي: " تقسيم فريد ومدقق! ".

التقينا بئيساً مد إلينا قبعته مرتجفاً ـ ما كنت أعرف قط، تعبيراً أشد خوفاً من تعبير البلاغة الصامتة لهاتين العينين المتوسلتين اللتين تتضمنان كثيرا من الخزي في آن واحد، وكثيراً من الملام بالنسبة للإنسان رهيف الحس الذي يعرف أن يقرأ ما فيهما عن بصيرة. يجد الإنسان شيئاً ما، يقارب استمرار ذلك الشعور المعقد في أعين الكلاب الدامعة التي تُجلد سوطاً.

كان تَبرُّعُ صديقي أضخم كثيراً من تبرعي، فقلت له: "أنت على حق؛ فبعد كون المرء مندهشاً، لا يوجد في الأمر أدهى ممن سبب له مفاجأة ما، أجابني في هدوء كأنما ليبرر سلوكه في تبذير المال ـ كانت تلك القطعة النقدية مزيفة". لكنْ،دخلتْ بغتة في خلدي الوضيع المنشغل دائماً بالبحث منتصف النهار إلى الثانية بعد الظهر )يالها من قدرة متعبة أهدتنيها الطبيعة! (دخلت هذه الفكرة التي لم يكن سلوك مشابه من قِبَل صديقي قابلاً للغفران إلا من خلال الرغبة في خلق حدث ما، في حياة هذا الرجل المسكين، ولو للتعرف ربما على العواقب المختلفة المشئومة، أو على غيرها مهما يمكن أن تسببها قطعة نقدية مزيفة وقعتْ في يد سائل معوز. أفلا يمكنها أن تتعدد إلى قطع نقدية مزيفة؟ أولا يمكنها أن تقوده أيضاً إلى السجن؟ مثلاً، ربما يضبطه صاحب حانة، أو بائع خبز سكاّكاً لنقود مزيفة أو مروجاً لها، كما أن القطعة المزيفة ربما تصبح تماماً بالنسبة لمضارب صغير فقير الحال سبب اغتنائه لبضعة أيام. كذلك كان تصوري يتخذ مجراه، يعير أجنحة لعقل صديقي، فيستخلص الفوائد، والتخفيضات الممكنة، من جميع الفرضيات الممكنة.

بيد أن هذا الصديق قطع عني فجأة حبل أحلامي منكراً عليّ بكلماتي الخاصة ذاتها: " نعم أنت على حق، فلا يوجد من سرور اكثر لطفاً من مباغتة رجـل وأنت تهب له أكثر مما لايتمناه. " رنوتُ إليه قبالتي بإمعان، وكنت مرتعباً من أن أرى أن عينيه كانتا تلتمعان ببراعة لا جدال فيها. عندئذ، رأيت بوضوح أنه كان أراد الإحسان، وصفقة رابحة في آن؛ أن يكسب أربعين فلساً وحب الرب ورضاه؛ وأن يفوز بالفردوس اقتصادياً؛ وأخيراً أن يحصل مجاناً على براءة رجل محسن مبرور. فلو أنني أوشكت أن أسامحه عن رغبته، في الاستمتاع الإجرامي الذي حسبته قادراً عليه بعد قليل، لكنتُ قد وجدتُ غريباً وشاذاً أنه ما فتئ يلهو للإيقاع بالبؤساء في الشبهات؛ بيد أنني لن أسامحه عن غباوة حسابه، فغير مسموح أبداً أن يكون المرء خبيثاً، بل إن هناك شيئاً من الفضل، أي إن المرء أهل له، فأكثر الرذائل تعذراً إصلاحُه هو ذلك النوع المسيء إلى الناس من خلال ارتكاب الحماقة.

29

المقامر السخي

أحسستُ أمس بكائن خفي يحتكّ بي عبر حشود المارة بالشارع، كنتُ دائماً أتشوق إلى معرفته، وقد عرفتُه على التو؛ ولو أنني لم أره قبل ذلك. أما هو؛ فمازال ينتابه تشوق مماثـل، فيما يتعلق بي. وفي الواقع، رمش إليّ من طرف خفيّ؛ وهو يمر، رمشة ذات مغزىً سارعتُ إلى الإذعان إليها، تتبعتُه بانتباه، وسرعان ما انحدرتُ وراءه نحو بهو تحت الأرض، فاتن، يشع فيه ترفٌ ربما لا يستطيع أي بيت من البيوتات الراقيات في باريس أن يتجهز بمثال يقاربه. بدا لي غريباً أنني قد مررتُ أحيانا كثيرة، بجانب هذا الوكر المدهش دون أن أهتديَ إلى مدخله. وما انفكّ يسود فيه جو ودّي، ومع أنه خلاب؛ فهو يكاد ينسيك فورا، كل أهوال الحياة المُضْجِرة، ويظل المرء يتنسم فيه غبطة كئيبة شبيهة بالغبطة التي استمر يكابدها الآكلون من وردة النيل لمّا أحسوا؛ وهم ينزلون في جزيرة مسحورة، مضاءة بشموس ِ هاجرة ٍ أبدية، لمّا أحسوا تتولد فيهم الرغبة، برقرقات شلاّلات رخيمة مهدهدة، في ألاّ يعودوا أبداً إلى آلهة مساكنهم وأولادهم، وألاّ يصعدوا مجدّداً فوق الأمواج العالية للبحار.

كان في الوكر وجوه رجال ونساء غرباء، موسومون بجمال أخّاذ؛ وإن كان يبدو لي أنني قد رأيتُهم بعد، في عهود وبلدان ما زال مستحيلاً عليّ أن أتذكرها تماماً، وبالأحرى، كانت تلك الوجوه تلهمني ودّاً أخوياً يولدُه هذا القلق عادة في صورة المجهول. فلو حاولت أن أحدد تعبير نظراتهم غير العاديّة، بأي وسيلة من الوسائل، لقلت إنني لم أر أبداً تلك العيون تتلألأ تلألؤاً من جراء هول الملل، والحرص الدائم على الإحساس بالعيش.

أكلنا وشربنا بإفراط،، من جميع أنواع الأنبذة الممتازة. وكان يبدو لي، بعد ساعات عديدة، أن الشَّمول مازالت تذهب به، أكثر مما ذهبت بي، الشيء الذي يكاد يكون غير عاديّ، والحال أن لعبة القمار، تلك اللعبة الفوق طاقة البشر، كانت تتخلل في مختلف فترات الاستراحة إسرافنا المتكرر في اغتباق الراح، ولابد أن أقول إنني قامرتُ فضيعتُ روحي باتباع شروط وآداب الكسب، من أجل الكسب وباستهتار وحماقة متهورين. فالروح شيء غير ملموس، وفي الغالب، غير مفيدة، وأحياناً مزعجة؛ وإن لم أكابد بالنسبة لهذه الخسارة التي مُنيتُ بها سوى أقل تأثير من ذلك التأثير الذي أكابده لو ضيعتُ في نزهة، بطاقة زيارتي.

دخنّا طويلاً بضعة سيجارات من نوع السيجار، نكهته وعطره، لا مثيل لهما، كانا يبثان في النفس حنيناً وتوقاً إلى البلدان، وإلى فرص السعادة المجهولة. لقد تجرأتُ لما انتشيتُ بكل هذه المباهج، على التمهيد للألفة بيننا؛ ولم يبد له ذلك التمهيد مزعجاً، فصرختُ مستولياً على كأس مليئة حتى الثمالة: " على نخبك الخالد، أيها الشيطان العجوز! "

تحدثنا كثيراً عن الكون ونشأته، وفنائه المقبل، والفلسفة الشاغلة للعصر،أعني فلسفة التقدم والاكتمالية، وعلى العموم، تحدثنا عن جميع أشكال التبجح البشري، وحول هذا الموضوع بالذات، لم ينضب معين الشيطان الرجيم من المفاكهات الخفيفة التي يتعذر بعضها، وكان يُبين عن أمهات أفكاره، بلطافة إلقاء، وبهدوء في طرافة، لم أعهدهما في أي واحد من أشهر المحدثين في الإنسانية. فقد شرح لي لامعقولية مختلف الفلسفات التي كانت حتى الآن، تهيمن على العقل البشري؛ بل تفضل الرجيم ليُسرّ إليّ ببعض المبادئ الأساسية التي لا يلائمني أن أقتسم فوائدها وملكيتها مع أي كان. ولم يشتك بأي حال من الأحوال، من سوء السمعة التي يتمتع بها في جميع أجزاء المعمور، بل أكد لي أنه كان هو بالذات الشخص الأكثر اهتماماً بتخريب الخرافات ودحضها، فاعترف لي أنه لم يخش نسبياً على سلطانه، إلا مرة واحدة، وكان ذلك يوم سمع فيه واعظا من أمهر الزملاء الوعاظ يصيح من أعلى المنبر: " إخواني الأعزاء، لا تنسوا أبداً عندما تسمعون تمجيد الناس لتقدّم المعارف، أن أبرع مكائد الشيطان، هو أن يُقنعكم بأن ذلك التقدم لا يوجد". قادنا ذكر هذا الخطيب الشهير، بطبيعة الحال، إلى موضوع الأكاديميات، فأكد لي مضيفي الغريب أنه كان لا يأنف في كثير من الأحوال من أن يلهم قلم وكلام وضمير المربي تعاليمه، وأنه يكاد يحضر بنفسه، في جميع المناقشات الأكاديمية؛ وإن كان لا يدرى شخصه ورسمه. ولما شجعتني طيبوبته المفرطة على الكلام، سألته عن أخبار الله، وهل رآه هذه الأيام الأخيرة، فأجابني بعدم اكتراث مشوب ببعض الحزن: " إننا نتبادل التحية عندما نلتقي، بيد أننا كـنبيلين راسخين في النبالة، قد لا تستطيع لباقة فطرية أن تخمد فينا كليا ذكرى أحقاد قديمة".

يصعب التصديق أبداً أن الشيطان الرجيم قد خص شخصاً عادياً بجلسة طويلة، وقد خشِيتُ أن أنخدع بتلك الطيبوبة المفرطة. وأخيراً، شرع، كالفجر المرتعش، يخطط يباضاً على زجاجات النوافذ... قالت لي هذه الشخصية الشهيرة التي تغنى بها كثير من الشعراء، وخدمها كثير من الفلاسفة الذين يشتغلون على تمجيدها دون معرفتها: " أريد أن تحتفظ مني بذكرى طيبة، وأن تبرهن أن أنا توصف في أقوالكم بكثير من الشر؛ فأنا أحياناً لوّامة ناهية، لانتفاعي بإحدى عباراتكم البذيئة. وللتعويض عن الخسارة التي لا تقدر بثمن، التي مُنيتَ بها في ضياع روحك في القمار، أهب الرهان لك أنك سوف تكسب، إذا كان حسن الطالع لصالحك. أعني إمكانية الخسارة والربح، خلال حياتك كلها، وأن داء السوداوية العجيب هذا، لهو أصل جميع أمراضك، وأصل جميع انتكاساتك. ولن تخالجك أبداً رغبة إلا وساعدتك على تحقيقها، ولتسودنّ على جميع أندادك من السوقة، وستزجى لك المدائحُ؛ بل أناشيدُ الهُيام بك، حتى العبادة، فسيسعـى إليك المال، والذهب، والجواهر، والقصور الفاتنة، منقادة إليك، وستترجّاك أن تتقبلها، دون أن تكون أنت قد قمت بمجهود لكسبها، وستنتقل إلى وطن آخر، وإلى قطر آخر، كما سيأمرك به هواك غالباً، وستسكر بالملاذ الشبقية دون ملل، في بلدان فاتنة حيث الجو حار دائماً، وحيث تتضوع النساء أيضاً طيباً كالأزهار". وأضاف وهو ينهض مؤذناً بالانصراف، في بسمة ملائمة "إلى آخره، إلـى آخره..."

لولا مخافة الخزي أمام محفل مهيب، لوقعتُ طوعاً عن رضى ساجداً أمام هذا المقامر السخي لأشكره على سخائه الحاتمي، لكن بعد أن غادرته، خامرني الارتياب الشديد في أمره شيئاً فشيئاً؛ لم أتجرأ على أن أصدق كلامه عن سعادة خارقة للعادة، وما فتئت أصلي من خلال ما تبقى لي من عادة بلهاء، مرتعداً، فأخذتُ أردد؛ وقد أخذتني غفوة من النعاس: "إلهي، رباه، ياإلهي! إجعل الشيطان يفي بوعده".

30

الحبل

إلى إدوار مانيه

كان صديقي يقول لي: " إن الأوهام أيضاً لا تُحصى لعلها مثلُ علاقات البشر فيما بينهم، أو علاقاتِ البشر بالأشياء. وعندما يغيب الوهم، يعني عندما نرى الكائن أو الحدث على علاته خارج أنفسنا، فإننا نكابد إحساساً غريباً مركباً نصفه من الحسرة بالنسبة للشبح المختفي، ونصفه الآخر من الدهشة المستساغة إزاء التجديد، وإزاء الحدث الواقعي. إذا ما وُجدت ظاهرة جلية، ومبتذلة، ومتشابهة دائماً، ومن طبيعة يستحيل الشك فيها، فهي الحب الأمومي. ويصعب أيضاً تصور أمّ بلا حب أمومي إلا مثل نور بلا حرارة؛ أوَليس مشروعاً تماماً، إسنادُ جميع الأعمال والأقوال الصادرة عن إحدى الأمهات والمتعلقة بولدها إلى الحب الأمومي؟ ومع ذلك، فاستمع إلى هذه الأقصوصة، وقد حدثت خلال اللحظة التي كنتُ فيها على انفراد منخدعاً بوهم ذلك الحب الأكثر فطرة.

" تدفعني مهنتي التشكيلية لأنظر بحذر إلى الوجوه وأقرأ سيماءاتها التي تستعرض نفسها في طريقي، فأنت تعلم أي متعة نجنيها من هذه الموهبة التي تسعف أنظارنا بالحياة الأكثر احتراماً والأكثر دلالة ومغزىً، شأني في ذلك شأن جميع البشر. ففي الحي النائي الذي أسكنه، وعند الفضاء الفسيح المخضوضر الذي مازالت تتباعد فيه العمارات عن بعضها، لاحظت غالب الأحيان طفلاً ذا سحنة متوهجة، فسحنته أكيس من السحنات الأخرى، وكان يغويني أكثر من مرة بهيئته، تارة حوّلتُه إلى بويهمي، وتارة أخرى إلى ملاك، وطوراً إلى حبيب أسطوري. قلدته كمان المطربين الجوالين، وإكليل الشوك، ومسامير آلام المسيح، وشعلة إيروس. وأخيراً اتخذت من ذلك الغلام، بكل طرافة، متعة حية، فاتفق أن طلبتُ من أقربائه، وهم من الناس الفقراء، أن يتفضلوا بالتخلي عنه لي، فأتعهدَ بإكسائه ومنحه شيئاً من المال، وألاّ أفرض عليه من عمل شاق آخر سوى أن ينظف لي فرشاتي، ويؤدي لي خدماتي. أصبح هذا الطفل المغسول الوجه فاتناً، فأما الحياة التي كان يعيشها وهو في بيتي، فكانت تبدو له فردوساً مقارنة ً مع تلك الحياة التي كان يكابدها في كوخ والده. سأقول فقط إن ذلك الصبي قد أدهشني أحياناً خلال أزمات حزن مبكر شاذة، وإنه قد أظهر سريعاً تذوقاً فعالاً في تناول السكر والخمور العذبة؛ ولذلك يوم تحققتُ فيه أنْ قد اقترف أيضاً اختلاساً من هذا القبيل رغماً من تحذيري له، هددته بإرساله إلى أقاربه. ثم حدث أن خرجت، وقد شغلتني أمور خارج بيتي.

" فما أشد هولي واندهاشي وأنا داخل البيت، إذ كان أول ما استرعى انتباهي غلامي، ورفيق حياتي الخبيث المعلق في ماطور الخزانة! تكاد قدماه تلمسان الأرضية؛ وكان كرسي قد دفعه بدون شك بقدمه مقلوباً بجانبه؛ كان رأسه مائلاً باختلاج على أحد كتفيه؛ قبل كل شيئ، وجهه المتورم، وعيناه الواسعتان المفتوحتان بكاملهما، الشاخصتان بشكل مرعب، أحدثت لي كلها هلوسات في حياتي. فإنزاله أيضاً ليس عملاً سهلاً كما تظن. كان جد متصلب بعد، وكنت أشعر بنفور غامض من أن أقوم على حين غرة، بإسقاطه على الأرض. كان ينبغي مساندته كاملاً بساعد، وقطع الحبل باليد الأخرى. لكن ذلك يطول، فكل شيء لم ينته بعدُ؛ وظل المشوه الصغير مشدوداً بحبل رقيق جداً داخل لحمه، وكان ينبغي الآن البحث عن الحبل الرقيق الرفيع بين شريطي الانتفاخ من اللباد كي أخلص له عنقه بالمقص.

" تهاونتُ في أن أقول لكم إنني قد طلبت النجدة سريعاً غير أن كل جيراني كانوا قد رفضوا أن يسعفوني، وقد أخلصوا في ذلك لعادات الإنسان المتحضر الذي لايريد أبداً، ولسبب ما، أن يتدخل في شؤون إنسان معلق. وأخيراً ، جاء طبيب صرح أن الطفل قد مات منذ عدة ساعات. ولما أزلنا عنه ثيابه للدفن فيما بعدُ، كان التيبُّس الجُثي لا يزال كما هو، فوجب علينا، ونحن يائسون من ثني أعضائه، أن نمزق ونقطع ثيابه لإزالتها عنه.

" نظر اليّ شزراً، عميد الشرطة الذي كان عليّ طبعاً أن أصرح له بالحادث، فقال لي: " ها هوذا أحد المشبوه فيهم! "، وقد حرّكه بلا ريب، رغبة متأصلة، واعتياده على التخويف للأبرياء، والمذنبين على السواء، تحسباً لكل طارئ.

ظلت مهمة سامية في حاجة إلى الإنجاز، من ذلك أن الفكرة التي كانت تسبب لي غماً مرعباً هي : أنه كان عليّ أن أخطر أقاربه بما حدث، وما زالت قدماي ترفضان أن تقوداني إليهم. وأخيراً، واتتني تلك الشجاعة، لكن عند اندهاشي الكبير، كانت أم الطفل هادئة الأعصاب، فلا دمعة جادت بها، أو ذرفتها من زاوية عينها، عزوت هذا الأمر الغريب إلى الرعب ذاته الذي كان عليها أن تعانيه، فتذكرتُ المثل المعروف: " أشد الآلام رعباً هي الآلام الصامتة ".أما الأب ، فقد اكتفى بأن قال في هيئة نصف بلهاء، ونصف حالمة: " ربما ذلك أحسن، بعد كل ما حدث؛ فقد ينتهي الأمر دائماً نهاية سيئة! "

والحال، أن الجسد كان ممدداً على أريكتي ساعدته خادمة على ذلك، فلم انشغل بالاستعدادات الأخيرة، عندما دخلت الأم إلى معملي فقالت إنها تريد أن ترى جثة ابنها، ولم أستطع حقاً أن أحاذرها من أن تنغص حياتها غماً بمصيبتها، ولا أن أرفض لها ذلك العزاء الأخير والمغتم، ثم توسلتْ إليّ أن أُريها الموضع الذي كان فيه ولدها معلقاً، فأجبتها: " واهاً! كلا! سيدتي، سيؤلمك ذلك. " وبما أن عينيّ قد التفتتا إلى الخزانة المحزنة، فإنني شاهدتُ بتقزز مشوب بالهول والغضب أن المسمار ظل مغروزاً في الجدار مع قطعة طويلة من الحبل لا تزال مسترسلة. وثبتُ بمهارة لأزيل تلك الآثار الأخيرة التي خلفتها تلك المصيبة، وحيث إنني أوشكت أن أرميه في الخارج عبر النافذة المفتوحة، فإن المرأة المسكينة ظلت تمسك بيدي فقالت لي بصوت لايقاوم: واسيداه! ألا دَعْ لي ذلك! أرجوكَ! أتوسل إليك! وبدا لي أن يأسها بدون شك، قد أذهلها كلية، فأخذت تتوله الآن حناناً بسبب ما استخدم من أداة في موت ابنها، وتود أن تحتفظ بها تحفة ً غالية من آثار الماضي ـ فما لبثت أن استولت على المسمار والخيط. "أخيراً! أخيراً! كان كل شيء قد أنجز، ولم يبق لي سوى أن أعمد إلى الاشتغال برشاقة اكبر من المعتاد، لأزيل هذه الجثة الصغيرة شيئاً فشيئاً، وقد ظلت تتردد صورتها في تجاويف دماغي، وما فتئ شبحها يتبعني بعينيه الواسعتين الجامدتين. بيد أنني توصلتُ في اليوم التالي برزمة من الرسائل: بعضها من أصحاب البيت الذي أسكنه؛ والبعض الآخر؛ من بيوت مجاورة، إحدى الرسائل من الطابق الأول؛ الثانية من الطابق الثاني؛ الثالثة من الطابق الثالث، وهكذا دواليك، فبعض تلك الرسائل جاء في أسلوب نصف ممتع، كأنما تحاول إخفاء صراحة طلبها تحت دعاية ظاهرة؛ الرسائل الأخرى الوقحة بثقالة وبدون مراعاة إملاء، لكنها كلها تميل إلى نفس الهدف، يعني الحصول مني على قطعة من الشؤم وحبل طوباوي. يوجد من بين الموقعين، سأقول ذلك صراحة،النساء أكثر من الرجال، ولكن الجميع، وكن على يقين من ذلك، كانوا لا ينتمون إلى الطبقة الوضيعة والعامية، وقد احتفظت بهذه الرسائل.

"وبعدُ،فقد سطع نور في عقلي فجأة فعرفتُ لماذا كانت الأم تحرص كثيراً على أن تسلب مني الخيط، وأي صفقة كانت تقصد بها العزاء".

31

الميول

في حديقة رائعة حيث لا تزال أشعة شمس خريفية تبدو متباطئة بلا سبب، كان أربعة أطفال رائعون، بل أربعة غلمان متعبون من اللعب تعباً يتحدثون فيما بينهم تحت سماء ضاربة إلى الخضرة، مافتئت سحب ذهبية تموج فيها كقارات متنقلة. شرع أحدهم يقول: " أخذوني أمس إلى المسرح. يتحدث رجال ونساء على وجوههم سمات الوقار والحزن في قصور شاسعة وحزينة أيضاً، في العمق الذي يرى فيه المرء البحر والسماء، بل هم أكثر روعة وأحسن أزياءً من أولئك الناس الذين نراهم في كل مكان يتحدثون بصوت رخيم، يتبادلون التهديدات ويتوسلون ويسندون غالب الأحيان أيديهم على خنجر مغمد في حزامهم. آه! ما أجمل ذلك! فالنساء أجمل وأعظم من النساء اللائي يأتين لزيارتنا في البيت، بالرغم من عيونهن الواسعة الغائرة وخدودهن الملتهبة، فلهن مظهر مدهش، ولا يمكن الحيلولة دون أن يحبهن المرء. إن ذلك يجعلك ترغب في ارتداء الزي نفسه، وقول وفعل الأشياء نفسها، والمحادثة بالصوت نفسه" وقال أحد الأطفال الأربعة فجأة، وكان لا يستمع إلى خطاب صديقه منذ بضع ثوان، وكان يلاحظ نقطة غير محددة في السماء بتركيز مذهل: " أنظروا إليه، أنظروا إليه هناك...!هل ترونه؟ إنه جالس فوق تلك السحابة الصغيرة المنعزلة، تلك السحابة لونها ناري، وتتهادى في مشيتها، وهو كأنما ينظر إلينا " فسأله رفاقه الآخرون: " ترى، من هو؟ " أجابهم بنبرة من اليقين الراسخ: " رباه! واهاً لقد ابتعد بعدُ، فعما قليل لن تتمكنوا من رؤيته. بالتأكيد، إنه يسافر لزيارة جميع البلدان، أنظروا، فسيمر وراء ذلك الصف من الأشجار الذي أوشك أن يبدو في الأفق... والآن، يهبط وراء برج جرس الكنيسة...واهاً! إننا لم نعد نراه! " وظل الطفل يتطلع إلى نفس الأشجار برهة من الزمن مركزاً عينيه ـ اللتين يلمع فيهما تعبير منيع من الانخطاف والأسى ـ على الخط الأفقي الذي يفصل الأرض عن السماء. عندئذ،قال ثالثهم، وكان شخصه الصغير بكامله موسوماً بنشاط وحيوية فريدة: " هل ذلك الطفل أبله مع إلهه بحيث يمكن له وحده أن يشاهده! أنا سأحكي لكم كيف عرض لي عارض لم يحدث لكم أبداً، وهو لا يقل أهمية عن مسرحكم وضبابكم ـ منذ أيام أخذني أقربائي للسفر معهم، وبما أن النزل الذي إليه آوينا ليس فيه ما يكفي من الأسرّة لنا جميعاً، فقد تقرر أن أنام مع خادمتي في سريرها ذاته "ـ انجذب إليه رفاقه، فتحدث إليهم بصوت أشد خفوتاً ـ " لا عليكم، فقد كان ذلك حصيلة مفعول فريد بألا ينام المرء وحده، وبأن يكون في سرير واحد مع خادمته في الظلام. وحيث إنني لم أنم، فقد تلهيت ، فيما هي لاتزال نائمة، بتمرير يدي حول ساعديها، وحول عنقها، وحول كتفيها، إن لها لساعدين وعنقاً أسمن من سواعد وأعناق غيرها من النساء جميعهن، فبشرتها لطيفة بما فيه الكفاية، لطيفة حتى لكأنها ورق الرسائل الفاخر، أو الورق الحريري. فلو لم أكن خائفاً من إيقاظها قبل كل شيء ـ ثم إنني خائف من شيء ما، لكان لي فيها كثير من أفانين المُتع التي ربما تابعتها زمناً طويلاً. ثم إنني أدخلت رأسي في فرعها الذي كان يتدلى على ظهرها كثيفاً كأنه ذؤابة، وكان يضوع طيباً ـ أؤكد لكم ـ مثل أزهار الحديقة ساعتذاك. حاولوا حينما تستطيعون إلى ذلك سبيلاً أن تفعلوا مثلي،فسترون." وكان للشاب صاحب هذا الاعتراف المدهش، وهو ينسج حكايته عينان محملقتان بنوع من الذهول مازال يعانيه، وأشعة الشمس تؤذن بالغروب منزلقة عبر حبكات ضفيرتها الشهباء المشعثة، فظلت تنيرها مثل هالة كبريتية من الآلام، فكان سهلاً التنبؤ بأن ذلك الذي لم يكن يضيع حياته عن الربوبية في غمرة السحب الكثيفة، فغالباً ما سيجدها في مكان آخر.

وأخيراً قال رابعهم: " تعلمون أنني قلما ألهو في البيت، وأنني لم أؤخذ أبداً إلى العرض المسرحي، فولي أمري بخيل جداً، واللهُ لايهتم بي ولا بكآبتي، فليست لي خادمة جميلة كي تدللني. وبدا لي غالب الأ حيان أن متعتي ربما تكمن في استقامة سلوكي دون معرفة من أين، ودون أن ينشغل أحد بمتعتي، وفي زيارة بلاد جميلة دائماً. إنني لم أوجد أبداً في أي مكان، وأعتقد دائماً أنني سوف أكون على أحسن حال في مكان غير هنا الذي أنا موجود فيه الآن.

وبعدُ! فقدرأيت في معرض القرية المجاورة الأخير ثلاثة رجال يعيشون كما أشتهي أن أعيش. إنكم لم تتنبهوا إليهم، أنتم، أيها الرفاق. كانوا بالغين تقريباً في أعمارهم، سوداً وفخورين جداً، ولو هم في أسمال بالية بهيئة تنمّ عن أنهم غير محتاجين لأحد، فقد أصبحت أعينهم الواسعة الكئيبة متألقة تماماً أثناء قيامهم بالعزف الموسيقي؛ موسيقى تعطي فجأة الرغبة في الرقص تارة، والرغبة في البكاء تارة أخرى، أو الرغبة فيهما معاً في آن، فلو استمع إليهم المرء أمداً طويلاً، لغدا كالمجنون. وكان أحدهم يبدو، وهو يجر قوسه على أوتار كمانه كأنه يحكي للملإ عن حزن ما، وكان الثاني يبدو واثباً بمقرعه الصغير على آلة بيان صغير معلق في عنقه بحزام، أنه يستخف بشكوى جاره، بينما كان ثالثهم يدق من حين لآخر صنجات بعنف غير عادي. وكانوا راضين إلى هذا الحد عن أنفسهم، إذ أنهم استمروا في عزف موسيقاهم الوحشية حتى بعد أن انفض الجمهور. جمعوا أخيراً نقودهم، وحملوا أمتعتهم فوق ظهورهم، فانصرفوا. أما أنا، فتتبعتهم من مسافة بعيدة إلى أطراف الغابة بغية معرفة أين كانوا يقيمون حيث أدركت عندئذ أنهم لا يمكثون في أي مكان، فقد قال أحدهم: " هل ينبغي نشر الخيمة؟ أجابه الثاني: بالتأكيد! كلا! لقد جَنّ الليل! وكان الثالث يقول وهو يحصي حصيلة النقود: "أولئك الناس لا يتذوقون الموسيقى، فنساؤهم يرقصن كمجاري الماء، ومن حسن الحظ أننا سنحل قبل شهر في النمسا التي سنجد فيها شعباً أكثر لطفاً".

وقال أحد الاثنين الآخرين: " ربما نفعل خيراً بأن نسافر إلى إسبانيا، لذلك، فها هوذا الموسم يتقدم، فلنهرب قبل حلول الأمطار، ولا نبللنّ إلا حناجرنا. " "احتفظت بكل شيء كما ترون، ثم شرب كل واحد منهم طاساً من العرق، فناموا، واستدارت وجوههم نحو النجوم في العراء. وقبل كل شيء، كنت أود أن أتوسل إليهم ليأخذوني معهم، وأن يعلموني العزف على آلاتهم الموسيقية، لكنني بالتأكيد، لم أجرأ، وأيضاً فلأنه مازال صعباً جداً أن ينصرف المرء إلى أي شيء، فما زلت أخاف أن يعاد القبض عليّ قبل أن أحل خارج فرنسا. " ألهمني مظهر الرفاق الثلاثة الوضيع أن أتصور بأن ذلك الصغير كان بعدُ، غير مقدر حق قدره. فأخذت أنظر إليه بانتباه، يوجد في عينيه وفي جبهته شيء ما، غير محدود من بوادر العبقرية الحاسمة يُبعد التعاطف معه، عموماً، ظل يثير تجاوب عاطفتي معه، بدون سبب، إلى الحد الذي كانت تراودني في إحدى اللحظات، فكرتي الشاذة: لو أمكن أن يكون لي أنا بالذات، أخ مجهول.

كانت الشمس قد غربت، فطفق الليل المهيب يتخذ مكانه، تفرق الأطفال، وكل واحد ينصرف إلى مصيره المجهول، حسب الظروف واتفاق الأحوال، وإلى التفكير بعمق في مصيره، وفضح أقاربه، وانجذابه نحو المجد أو العار .



* intérêt capital : يوجد في هذه العبارة تعريض، فـ peine capitale : للحكم بالإعدام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق